اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء علم الاجتماع وميادينه، واستخدام مناهجه العلمية في دراسة المجتمع البشري وظواهره، واكتشاف قوانين النظام الاجتماعي الذي يحافظ على استقرار المجتمع وضبط توازنه. وقد أسهم كثير من المفكرين والمنظرين والعلماء في إثراء هذا الميدان العلمي الخصيب، وإشباع اتجاهاته السوسيولوجية. ومن أهم المنظرين والباحثين في علم الاجتماع العالم الأمريكي ثورستاين فبلن (1857- 1929) الذي ولد من أبوين نرويجيين مهاجرين.. ولذلك نشأ منتمياً لطبقة منخفضة اقتصادياً، بحكم أنه كان ابن مهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية بحثاً عن حياة معيشية أفضل, ولذلك كانت الظروف المعيشية الصعبة سبباً في تركيز دراساته على العلاقة المتبادلة بين الاقتصاد والتطور الاجتماعي متأثراً بالنظريات التطورية والنظريات العملية، فبرع في مجال (علم الاجتماع الاقتصادي) الذي يعد واحداً من أهم ميادين علم الاجتماع العام، بعد أن تأثر بمدارس العلماء هربرت سبنسر وليام جيمس وليام سمنر. نال شهادة الدكتوراه من جامعة (ييل) التي تعد ثالث أقدم جامعة أمريكية بعد أن أشرف عليه في هذه المرحلة العالم ويليام سمنر، وكانت أطروحته العلمية تحمل عنوان (الأسس الأخلاقية لعقيدة الانتقام) فعمل أستاذاً في جامعة ميسوري, وجامعة شيكاغو, وجامعة ستانفورد، وفي الوقت ذاته كان مسئولاً عن تحرير مجلة (الاقتصاد السياسي) وهي مجلة مرموقة كان يكتب فيها عدد من المثقفين أمثال (جون ديوي وجين أدمز, وفرانز بوز) ليصبح واحداً من أشهر العلماء في علم الاجتماع الاقتصادي في زمانه. ولذلك يعتبر فبلن من علماء الاقتصاد الاجتماعي المرموقين الذين وجدوا في علم الاجتماع الاقتصادي ميداناً خصباً ومجالاً ثرياً ليسهم بأفكاره المتعددة في وضع أسس علمية في هذا الميدان الحيوي, وعدم الفصل بين علم الاقتصاد وعلم الاجتماع، حيث اشتهر بدراسته تاريخ الفكر الاقتصادي بعد أن دمج نظرية التطور مع نهجه المؤسسي للتحليل الاقتصادي، واستطاع أن يجمع ما بين علم الاجتماع والاقتصاد في كتابه الرائع (نظرية الطبقة الغنية) عام 1899, الذي ذاع صيته بعد أن نشر كتابه (نظرية الطبقة الغنية) و(نظرية المشاريع التجارية ) هاجم فيها رجال الأعمال وجشعهم والرأسمالية. وكان أول من أشار إلى الاستهلاك التفاخري من منظور اقتصادي اجتماعي. وأوضح أن النشاط الرئيس للطبقة الغنية هو الاستهلاك المظهري أو الاستهلاك التفاخري, ضارباً مثالاً بقوله لا يشتري الناس ما يشترون لأنهم يحتاجون إليه بالضرورة, وإنما يشترون ما يشترون للتباهي والتفاخر ولتقليد طبقة اجتماعية معينة, أي أن بعض الأفراد مدفوعون للشراء بـ(أثر التقليد) بأنهم يحبون أن يقتنوا ما يقتنيه من حولهم..!! كما أن مساهمة هذه الطبقة في الاقتصاد لا تعد سوى نشاط مهدر لا ينتج عنه أي نوع من أنواع الإنتاجية في الوقت الذي كان الاقتصاد الأمريكي غير فعال ومصاب بالفساد كما أشار إليه فبلن..!! تميزت أفكار العالم (فبلن) بأنها أخذت طابعاً نقدياً للأفكار والتصورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والفلسفية التي كانت قد ظهرت من قبل. كما تبنى بعض الأساليب المهمة التي يمكن عن طريقها دراسة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي ظهرت في المجتمع الأمريكي، ومن هذه الأساليب والوسائل التي ركزت بشكل أساسي على تحليل التغير الاجتماعي، ومحاولة إعادة تنظيم وتشكيل الاتجاهات التطورية نحو خدمة المجتمع العام. وتبني سياسة الإصلاح الاجتماعي, ولذا السبب سعى فبلن لتكوين (المدرسة المؤسساتية) وصياغة مبادئها واهتمامها بالمدخل الإصلاحي. كما اعتبر فبلن عملية التطور الاجتماعي تبتدئ بتغيير القيم الإنسانية التي تؤدي إلى التطور التكنولوجي, والتكنولوجيا بدورها تؤدي إلى تغير في القيم والأفكار والخيال، هكذا اعتبر هذا العالم الشهير ثورستاين فبلن أن عملية الحياة الاقتصادية تؤدي إلى تراكم عمليات تكييف الوسائل للغايات بصفة مستمرة ودائمة, كما اهتم رائد علم الاجتماع الاقتصادي فبلن بالعمليات الاجتماعية المتبادلة مثل التثقيف والاستعارة الثقافية وتهجين الأفكار، وتبعاً لذلك كان يرى أن بعض المجتمعات الإنسانية أكثر قدرة من الأخرى في تكييف الأفكار الخارجية لأغراضهم الخاصة. وطبقاً لما ذكره عالم الاجتماع العربي د. محمد فؤاد حجازي في كتابه (النظريات الاجتماعية: 1999) أن نظرية فبلن تمثل رد فعل عملي لآثار التصنيع خلال فترة حياته في عصره. ولذلك أنشأ نظرية عن الصراع الاجتماعي استخدم فيها العوامل الطبيعية وتطورية وحتمية اقتصادية, والعملية الرئيسية في هذه النظرية تتكون من التطور التكنولوجي والاستعارة الثقافية. والأكيد أن إسهامات العالم الكبير (ثورستاين فبلن) في علم الاجتماع الاقتصادي تعد من التحليلات المهمة والمنجزات السوسيولوجية التي أعطت قفزة نوعية للاهتمام بهذا الفرع الخصيب من فروع علم الاجتماع العام, خاصة أن أفكاره ظهرت في فترة مهمة لتطوير علم الاجتماع وميادينه في الأربعينيات القرن الفائت، حيث شهدت مكانة مهمة في علم الاجتماع الأمريكي وجذب المهتمين والباحثين بالعلوم الاجتماعية خاصة الاقتصاد والإعلام وعلم النفس والسياسة نحو بوصلة علم الاجتماع في دراسة وتحليل وتفسير المشكلات الاجتماعية التي ظهرت نتيجة ازدهار المجتمع الرأسمالي، وهذا ما ظهر في أبحاث ودراسات العالم فبلن كونه عالماً اقتصاداً لامعاً وجد من المداخل السوسيولوجية أساليب ومناهج تحليلية مهمة لدراسة الظواهر الاجتماعية والمشكلات الاقتصادية المختلفة، وبالتالي جعل من هذه المداخل منطلقاً علمياً لتركيز المدرسة المؤسساتية التي سعت بربط علم الاقتصاد بالعلم الاجتماع ليظهر علم حيوي علم الاجتماع الاقتصادي الذي يقوم على تطبيق الإطار المرجعي لعلم الاجتماع ونماذجه التفسيرية لدراسة وتحليل الأنشطة الاقتصادية الحديثة التي تعالج عمليات الإنتاج والتوزيع والتبادل واستهلاك للسلع والخدمات, ويركز على التبعات الاجتماعية للتبادلات الاقتصادية. توفي العالم ثورستاين فبلن عام 1929 تاركاً تاريخاً حافلاً بالمنجزات العلمية والبصمات السوسيولوجية في تراث علم الاجتماع الاقتصادي الأصيل بعد أن صاغ مفاهيم نظرية أساسية ومداخل السوسيو- اقتصادية عالجها بصورة نقدية واقعية في هذا الميدان الخصيب، لتصبح مرجعاً مهماً لكثير من علماء الاجتماع المعاصرين. يعاد تقييمها حديثاً لتحليل أهميتها وقيمتها في علم الاجتماع الاقتصادي.
مشاركة :