د. عبدالله الغذامي يكتب: القهوة بوصفها علامة ثقافية

  • 1/15/2022
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يشهد فنجان القهوة على التحوّل الثقافي السلوكي، حيث يلعب فنجان القهوة دور العلامة الثقافية الفارقة بين عقلية ثقافية جماعية وعقلية فردانية، وهناك قصة لشاعر من قبيلة هذيل التي تقطن الجبال المحيطة بمكة المكرمة، حيث نزل الشاعر من الجبل ليكتشف أمراً هاله وهو وجود محال حول الحرم تبيع القهوة، وهذه صدمة ثقافية تعرض لها هذا الشاعر الذي يحمل ثقافة القهوة بوصفها تعني شروط الضيافة التي هي أولى لحظات تبادل الرسائل بين الضيف ومضيفيه، وستكون القهوة التي سيعدها صاحب المجلس بيده ويجربها برشفة بروتوكولية لأول فنجان، وهو فنجان للتطمين على سلامة النية وسلامة القهوة وأنها آمنة، ويتلو ذلك فنجان الضيف، والشرط أن يتقبله الضيف ويرتشفه فوراً ولو امتنع عنه، فهذه علامة عن موقف سلبي، أو إشارة إلى أن له حاجةً، ويريد وعداً أولياً بتحقيقها قبل أن يتقبل الفنجان، وعادة يتم له ذلك دون سؤال عن مطلبه وحينها يكون التنفيذ لزاماً مهما كان الطلب، ويتلو ذلك فنجان الكيف، وهو فنجان حر وغير مقيد بشرط، وللضيف أن يشربه أو يتركه دون تبعات، ويتلو ذلك فنجان السيف وهو الأخطر لأن شرب الضيف له يعني وعده لمضيفيه أن يكون معهم في السراء والضراء، وهذه قيم ثقافية يختزنها ذهن الشاعر الهذلي، لكنها تتهشم أمام ناظريه لتصبح القهوة للبيع في مقهى يبيع الضيافة، مما دعا الشاعر لهجاء حاضرة مكة الذين عشاؤهم التميس والفول وقهوتهم للبيع. هذه لحظة ثقافية فارقة في علاقات المعاني المجتمعية بين عرف ثقافي له أبعاده ودلالاته ذات المقامات والقيم بحيث تقوم القهوة مقام العهود والكرامات وتحديد السلوكيات، ولكن المدينة أخذت بتغيير معاني الثقافة وجاء فنجان البيع، وهو فنحان فرداني النزعة ويرتبط بالكيف دون سائر المعاني، وإن ظلت القهوة علامة ثقافية وسلوكية، ولكنها غيرت من دلالاتها، وأصبحت القيمة المادية تغلب على القيمة المعنوية، فأصبح فنجان الكيف هو المعنى الوحيد للقهوة وهو معنى حيادي وذاتي ولا يرتبط بصيغ العلاقات ولا بتحديد المواقف والمقامات، والفرد أصبح نفسه فنجاناً ثقافياً واجتماعياً، حيث ارتبطت القهوة بتنوع ثقافي في المذاقات والأحجام والأثمان، وكلها في صيغ فردانية وذات بعد فردي يعود للذوق الفردي، والذوق وحده هو الدال والمدلول، والسياق فيه يعود لمذاقٍ ظل يتجدد تبعاً لتحولات الموضة الثقافية، بحيث أصبحت القهوة ذاتها في متاهة بين أخلاط تحاصرها حتى لتبدل لونها وتبدل طعمها وتبدل قيمتها، والفنجان الواحد يدوم لوقت طويل يتعزز فيه الكيف بعد أن كان مجرد رشفة خاطفة تمنح معناها الخاص برقمها بين فنجان للضيف، وثانٍ للكيف، وثالثٍ للسيف، وهي كلها ثلاث رشفات قد يطول بها الفاصل، ولكنها تظل ذات وظيفة يترتب عليها أمور ليست بالهيّنة في حياة القبيلة وضيف القبيلة. أما وقد تولى الكيف تحديد معنى القهوة، فقد أصبحت فردية وانزاح المعنى الجماعي عنها، وحل المعنى التجاري لتوظيف الكيف وإغرائه بأنواع الحيل التسويقية، ودخلت في لعبة الموضة الثقافية، كما في تحول المطية إلى السيارة وأخذت السيارة، كذلك معنى الكيف إذ لم تعد مطيةً بمقدار ما هي شكل ولون ومذاق بمعنى نوعية علامتها التجارية التي ستصبح هي القيمة أكثر من حقيقة السيارة بوصفها مطيةً أو راحلة.

مشاركة :