وقفات تأملية في قصيدة ” الدفتر المصلوب” للشاعر محمد المدخلي

  • 1/23/2022
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

طارق يسن الطاهر إنها قصيدة باذخة ، لشاعر شامخ ، أما القصيدة فهي ( الدفتر الـمصلوب) ، وأما الشاعر فهو أبوالهيثم محمد جابر المدخلي ، الشاعر المعلم ، فالمعلم يجيد فن القول ، ومتفوق في توصيل ما يريد قوله ، وحينما يتحد المعلم والشاعر في شخص واحد ، فلا تنتظر غير الجمال ، وذاك هو الذي نجده لدى محمد المدخلي . عتبة العنوان من أهم العتبات في تأمل النص الشعري؛ لأنه أول ما تقع عليه عينا المتلقي ، فالعنوان لابد أن يكون مغريا ومثيرا ، وقابلا للتأويل ؛ حتى يجذب المتلقي لقراءة النص ، ولو نظرنا في عناوين قصائد شاعرنا نجده يتمتع بقدرة فائقة على اختيار العنوان مدخلا للقصيدة ، فهو بارع جدا في انتقاء عناوينه ، كما هو بارع جدا في نظم قصائده ، فلو نظرنا في بعض عناوين قصائد الشاعر نجد كل عنوان بمثابة قصيدة ، من حيث المفردات والصياغة والخيال ودقة التركيب، ومن تلك العناوين : رعشةُ الذكريات، وعَثْرَةٌ على فوضى الغرام ، أوجاعٌ على بابٍ مَخْلوع ، وعنوان قصيدتنا موضوع التأملات الحالية : الدفتر المصلوب . وإن تتبعنا قصيدة “الدفتر المصلوب” ، فالقصيدة عبارة عن قصة حب نسجها شاعرنا بضمير المتكلم ، وهو المحب العاشق الذي قطع قربا لذلك الحب ، لكن تقطعت سبل الوصال ، وتصرمت حباله ، ونجح في استخدام عدد من الكلمات التي تخدم ذلك الغرض ومنها : شد ، حبل ، نسج ،المفتول ،وصلا لحبل … ؛ مما جعل مدلول رمزية مقصِده واضحة ، لكنها عميقة ، فهذه الرمزية المحببة للمتلقي ، أن يعطيه الشاعر مفاتيح يتمكن بموجبها فك رمزية الشاعر ، لا أن تكون الرمزية غموضا يستحيل معها فهم مرام الشاعر ثم ينتقل إلى توضيح التشظي الذي أصاب قلبه ، فالأسئلة تخرج من قلب محطم ، بدافع ذلك الخداع الذي أصابه ، والغدر الذي ألمَّ به ، وإجابات هذه الأسئلة حيَّرت الأفكار ، وفرَّقت النبأ. فقد عانى من الغدر ، وأصابته الدهشة الكبرى لما حدث من غدر وخداع ، وكثرت جروحه ، وأضحى هائما على وجهه في البيداء ، ولم يدرِ وجهته ، ولم يجد كلأ سوى فتات نفسه ، ثم يبرز الدفتر المصلوب – عنوان النص- بعد بحث وتفتيش، لكنه لا يبقى صامدا ، فما أن يقرأه حتى تتلاشى سطوره. ثم سكنته الحيرة ، وما عاد له أنيس ، وبقي سجينا لآلامه التي امتدت وتطاولت بحجم الكون ، لكنه يعود إلى قوة إيمانه ، ويلجأ لرب العزة الذي ما خاب لاجئ إليه ، ثم ينتظر الأمل ، فيختم بهذا الاستفهام الذي يخرج عن غرضه الحقيقي لغرض التمني : فَهَلْ تَعُودُ الـمُنى يَوْمًا لِتَسْقِيَني ماءَ الحياةِ لِـمَاضٍ وَدَّعَ الظَّمَأَ هي قصيدة تنتحي أحيانا في بعض أجزائها ناحية درامية ؛ حيث يبرز الحوار فيها : فَقُلْتُ: ماذا تراءى للحبيبِ وما تَصاعدَ الحِسُّ إلَّا خِلْتُهُ هَدَأ؟ برع الشاعر في نسج صوره ، وأجاد في توظيفها حسب مقتضيات النص ، ومن ذلك تلك الصورة المعبرة التي أراد بها الشاعر توضيح أن حزنه كبير، وألمه ممتد، وآهاته عظيمة ،تفوق كل المخلوقات : الكونُ لمْ يَتَّسِعْ لِلآهِ مِـنْ ألَـمي ولا الفضاءاتُ أو ما خالقي بَرَأ وهذه مبالغة ، لكنها حسنة، وليست ممقوتة . شاعرنا بارع جدا في انتقاء مفرداته ، وكلها ذات إيحاء وظلال ، ومع كثرة الترادفات في اللغة ، لكنه يحسن اختيار المرادف الذي يكون مميزا عن غيره في دقة إصابة المعنى ، ومن ذلك قوله : خاتلتني ، فكان يمكنه أن يقول خادعتني، بنفس الوزن ، ونفس المعنى ، لكن هنا يبرز تميز محمد المدخلي ، وهذه ميزة تسمو به على كثير من الشعراء . وهنا مفردات متقدة ، تخدم مجالا محددا ، تتضافر معا ؛ لتعطي النص قوة ، وذلك يتمثل في : وميض ،اشتعال ، انطفأ … وهذا قمة التكثيف: عاثتْ بِهِ ظُلْمَةُ الأنحاءِ واشتعلتْ أقداحُهُ مِـنْ وميضِ الغْدْرِ فَانْطَفَأَ يحشد الشاعر عددا من الصور التي تصب في المتخيل الشعري ، فيمنح المتلقي جمالا يفوق الوصف ، ومن ذلك : الاستعارة في : ل احَقَني صَدَى جُرُوحٍ لِتَسْقِيَني ماءَ الحياةِ لِـمَاضٍ وَدَّعَ الظَّمَأَ ويأتي بالترادف الذي يؤكد المعنى في : انطفأ ، تلاشى كما نلمح الطباق ؛ حيث التضاد الذي يوضح المعنى، وذاك كثير في النص، سواء كان تضادا بين مفردات أو بين مواقف ، ومن ذلك الطباق بين : تَصاعدَ ، هدأ ، وأيضا بين : أسْئلةٌ ،جَوابُها كما يجيد شاعرنا صوغ الكنايات بشكل احترافي، ويبدو ذلك في مواضع كثيرة من النص، ومنه: ما خالقي بَرَأ وهي كناية عن موصوف، ويقصد بها جميع المخلوقات التي برأها الخالق البارئ عز وجل . وهنا كناية أخرى عن موصوف أيضا ، والمقصود بها “رب العالمين” في : سَأَشْتَكيه لِـمَـنْ تَأتِي الخُصومُ لَهُ ثم يبرز التشخيص في : لحبْلٍ شاخَي تدافعت أسئلة ينوع شاعرنا بمهارة بين الجمل الاسمية ، ومنها : جَيشانِ في لَهْوهِ العاتي الكونُ لمْ يَتَّسِعْ لِلآهِ مِـنْ ألَـمي والجمل الفعلية ، ومنها : مَكَثْتُ حيرانَ لا حَدْسٌ يؤانسني وَعَاشَ سِجْنًا بِقُضْبانٍ لَهُ لكن استخدامه للجمل الفعلية كان أكثر، وذاك لأن النص يضج بالحركة ولا يقبل السكون ، فكان ملائما جدا أن تكثر فيه الأفعال . ومن ذلك أنه حشد بعض الأبيات بعدد من الأفعال المتعاقبة ؛ مما أدى إلى منح النص حيوية وحركة دؤوب ، يتضح ذلك في هذا البيت الذي ذكر فيه الشاعر أربعة أفعال : لعلَّ إيماءةً للود تَجْعَلُني أُقيمُ وَصْلًا لحبْلٍ شاخَ واهترَأ تلاعبَ الشاعر باقتدار بأماكن الكلمات ، فقدم ما حقه التأخير؛ كي يمنح النص معاني إضافية ،ويفتح له آفاقا احتمالية أوسع ، ومن ذلك : شَدَّ حَبْكَتَهُ وَفاءُ حَرْفٍ فترتيبها الطبيعي : شد وفاءُ حرفٍ حبكتَه ، فأخّر الفاعل وقدم المفعول به. يعتمد الشاعر الحذف للاختصار ؛ فـ : ” حذف ما يُعلم جائز “، ومنه : جَيشانِ في لَهْوهِ العاتي تُعاركُهُ رِيحُ الصباباتِ مِـنْ حَصْبائها صَبَأَ أي هما جيشان ، فحذف المبتدأ للعلم به وللاختصار. وكذلك في البيت : الكونُ لمْ يَتَّسِعْ لِلآهِ مِـنْ ألَـمي ولا الفضاءاتُ أو ما خالقي بَرَأ فأصل المعنى : ولا الفضاءات تتسع … لكن المعنى مفهوم يفسره الفعل المذكور قبله. واتكاءً على ثقافته القرآنية ، نجد أن شاعرنا يقتبس من القرآن الكريم قصة الهدهد وسبأ في سورة النمل ، حينما يقول : مَكَثْتُ حيرانَ لا حَدْسٌ يؤانسني وَهُدْهُدِي غابَ عني واقتفى سَبَأ وهذا من قوله تعالى : ” مالي لا أرى الهدهد…” النمل 20 و ” وجئتك من سبأ بنبأ يقين ” النمل 22 تنوعت أساليب شاعرنا في نصه ما بين الخبر والإنشاء ، فمن الإنشاء نجد الترجي في : لعلَّ إيماءةً للود تَجْعَلُني أُقيمُ وَصْلًا لحبْلٍ شاخَ واهترَأ والاستفهام بغرض التمني : فَهَلْ تَعُودُ الـمُنى يَوْمًا لِتَسْقِيَني ماءَ الحياةِ لِـمَاضٍ وَدَّعَ الظَّمَأَ واستفهام آخر بغرض التعجب : ماذا دهى النبْرةَ القُصْوى وَسَطْوتَها أمْ كُلَّما لاحَ صَوتي للوصَالِ نَأَى؟! القصيدة من بحر البسيط الذي “يبسط لديه الأمل” بتفعيلاته الثنائية : مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن ، تتكرر مرتين في كل شطر ، والبسيط بحر رحب طويل ، يتسع لاحتواء مكنونات الشاعر ، ويقدر على استيعاب معانيه ، مهما كثرت . أما حرف الروي فهو الهمزة ، والهمزة حرف حلقي عميق المخرج قوي الصوت ، وهنا اختار شاعرنا أن تأتي همزته مفتوحة ، كانه يوحي لنا بإطلاق معانيه ، وتدفق صوره دون توقف. جاء البيت الأول مصرعا ؛ حيث اتفق آخر حرف في كل شطر منه: قَطَعْتُ قُرْبًا لِذَاكَ الحُبِّ مُذْ بَدَأَ فَخانني نَسْجُهُ الـمَفْتولُ وَاتَّكَأ والتصريع، ويسمّى أيضا التقفية الداخليّة، يكون باتّباع عروض البيت لضربه. حرف السين ، وهو من حروف الصفير، أعطى الأبيات جرسا موسيقيا رائعا ، وذلك بتكراره كثيرا في النص، ومنه ثلاث مرات في بيت واحد: مَكَثْتُ حيرانَ لا حَدْسٌ يؤانسني وَهُدْهُدِي غابَ عني واقتفى سَبَأ كذلك تكرار حرف القاف في بيت واحد ثلاث مرات ، له أثره في إحداث نغمة موسيقية : تَقَلَّبَتْ قِبْلَتي بالبيدِ ما وَجَدَتْ إلا فُتاتي لِكي يَبْقى لَهُ كَلَأَ ويختم شاعرنا قصيدته “قصته” بهذا التساؤل المفتوح الذي يحمل معنى التمني : فَهَلْ تَعُودُ الـمُنى يَوْمًا لِتَسْقِيَني ماءَ الحياةِ لِـمَاضٍ وَدَّعَ الظَّمَأَ الدفتر المصلوب نص ماتع ، عميق ، فاره، باذخ ، لشاعر عظيم ، متفرد ، متمكن ، لا أدَّعي أنني أحطت بالنص من جميع جوانبه في هذه القراءة التأملية ، فعبقرية المدخلي صعب سبرها ، ولكن حسبي أنني أطلقت إشارات ،تضيء الطريق لقراءات أكثر عمقا .

مشاركة :