جدلية الصراع بين الحق والباطل في قصيدة «الأجنّة» للشاعر محمد الثبيتي - ثقافة

  • 11/29/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

من يتمعّن في قراءة ديوان الشاعر محمد الثبيتي سيجد أنه أدمن لغة الرمز في شعره حتى صار عنده كالماء والهواء والخبز اليومي للإنسان الذي لا يستطيع المرء أن يعيش من دونه، ومهما حاولنا أن نفصله عن هذه الروح الرمزية الكامنة في شعره لا يمكننا ذلك، ويكون عملنا كمن يفصل الروح عن الجسد الذي لا يمكن أن يعيش من دونه، وهو لا يستطيع الاستمرار في هذه الحياة من دونهما. هذه هي باختصار علاقة الثبيتي بالرمز وموقفه من الرمزية، في قصيدة «الأجنة» الكائنة في ديوانه الشعري «التضاريس» تتجلى حالة من حالات الرمزية في لغة الثبيتي الشعرية وقبل الشروع بقراءة هذه القصيدة يجدر التوقف عند الكلمات الموحية بالمخاض والتكوين الجنيني «اللقاحِ- مواعيد- الأعراسِ...» أو الوقوف عند صيغ تعبيرية تحمل هذا المدلول بشكل مباشر أو شبه مباشر «باب البنات- حملت عيون الماء- يا صباح الفتح- يريق الراية الحمراءَ» حيث شكلت هذه العبارات أو الصيغ التعبيرية عناوين صغيرة وأسماء جانبية للنص الكلي الذي حمل اسم «الأجنة» وكأن هذه العناوين الصغيرة بذور انتشرت بين الجمل والمقاطع لتعلي من نبرة حضور الولادة والمخاض في كل عموم النص. تظهر ثقافة الشاعر الدينية التي تتعامل مع مفاهيم الدين من زاوية الفنان الخالق للإبداع لا الناقل للموروث كما هو بشكل جامد لا روح فيه، إذ تندمج هذه السياقات المتنوعة ضمن مسار واحد وإن اختلف السياق المجتزأ منه الكلام، غير أنها تتقاطر في نسق صراع الإنسان مع الصحراء وفوق الصحراء، صراع الإنسان مع الصحراء القاسية، وصراعه فوقها من أجل الحياة والولادة من جديد، يقول الثبيتي: وتماثلوا للاحتدام... تماثلوا للهاجسِ الليليِّ يا أرضَ ابلعي تعبَ العُراةْ فقوله: «يا أرضَ ابلعي تعبَ العُراةْ» فيه توظيف لقصة نبي الله نوح- عليه السلام- بالإضافة لموقف آخر لا علاقة له بهذا التوظيف. هذا الدمُ الحوليُّ منصوب على تيماءَ من يلقي بوادي الجن شيئاً من نحاسْ من ذا يغنِّي: لا مساسْ. من ذا يريق الراية الحمراءَ من يحصي الخُـطَا من ذا يعرِّي قامة الصحراء من سرب القطا. حيث يتوافق قوله: «لا مساس» مع ما جاء في قصة نبي الله موسى بن عمران- عليه السلام- حينما خاطب السامري الذي أضلَّ بني إسرائيل حينما اتخذ لهم العجل لعبادته من دون الله تعالى، غير أن كلا السياقين يختلفان عن بعضهما البعض، فالتوظيف الأول جاء بعد أن استوت سفينة نبي الله نوح- عليه السلام- على جبل الجودي، أما الثاني فقد جاء بعد أن هشّم نبي الله موسى- عليه السلام- العجل الذي صنعه السامري لبني إسرائيل، ومن يتأمل كلا السياقين سيجد أنهما وردا بعد انتصار الحق على الباطل، ولو حاولنا فهم هذين التوظيفين مع السياق العام للنص ومع استلهام معنى القصيدة، لوجدنا أن الشاعر كان يومئ من هذا الاستعمال في كلا المقطعين إلى بث الحياة في النفوس المهشمة وزرع الأمل بالصحراء وساكنيها لميلاد شمس جديدة قد تشرق على الرمال، لاسيما ان التوظيف الأول يشير إلى تنظيف الأرض من الكفر والطغيان والعصيان لرب العالمين، في الوقت الذي يشير فيه التوظيف الآخر إلى تنظيف الإنسان من الدرن النفسي الذي تسلل للنفوس بعد عبادة العجل المصنوع من قبل السامري، وهذا الفهم يتوافق مع عنوان القصيدة «الأجنة» من أن هذه الأجنة التي في طور التكوين داخل الأرحام بشير بميلاد وضع جديد، ومؤشر على مخاض ينتظر هذه الرمال، خصوصاً أنه يشير بقوله: «تعبَ العُراةْ» الذي يتماهى مع حديث «الحفاة العراة» وهو يتوافق مع انتظار المخاض المقبل على هذه الصحراء، بصرف النظر عن كون الحديث النبوي الشريف قد جاء في سياق الذم، لكن نستطيع أن نفهمه من جهة أخرى يدعم التوجه الحاصل في فهم تداعيات هذا النص. علاوة على ذلك، فإن قول الشاعر «من ذا يغنِّي: لا مساسْ» يتماهى مع انتظارات حالات الولادة الأولية المبتدئة بالفرح والغناء والزغاريد، والشاعر يريد الاستفادة من قوة استحضار انتصار الحق الذي جاء به النبي موسى على الفساد الذي أحدثه السامري، يريد استحضار توهج هذا الانتصار بانتصار حالات الولادة والمخاض الجديد الذي يرجوه الشاعر أن يتحقق فوق هذه الرمال وهذه الصحراء. في عودة أخرى لهذا النص، لكن هذه العودة تتجه بنا نحو منتصف القصيدة، حيث نلاحظ هذا الامتياز الواضح الذي تتجلى به تجربة الشاعر الثبيتي، وذلك أن لغته الشعرية بما تحفل به من قوة تفجيرية لمداليل الرموز الشعرية وإيحاءات الكلمات، كونها تفتح فضاءات لا متناهية للتخيّل وللتأويل حتى في الوقت الذي يأتي به بأشياء واضحة، كقوله: قد كنت أتلو سورة الأحزاب في نجدٍ واتلو سورة أخرى على نار بأطراف الحجازْ قد كنت ابتاع الرقى للعاشقين بذي المجاز لقد جاء بالسورة التي شهدت تحوّل الحياة في مسيرة النبيِّ الكريم-عليه الصلاة والسلام- والتي بعد أحداث هذه السورة التي حملت اسم غزوة من أشد الغزوات التي حصلت للمسلمين الأوائل، حيث تغيّر شكل الصراع بين الحق والباطل، فهذه الغزوة التي جمعت قبائل من اليهود ومن قبائل الحجاز بزعامة قريش وقبائل من غطفائل وقيس عيلان من أرض نجد لاجتثاث بذرة الإسلام في مهده الأول، يعمل الشاعر على استحضار كلٍّ من نجد والحجاز في هذا السياق واردًا معهما «ذي المجاز»، وكأنه يورد كل أسواق العرب الأخرى التي شارفت أعدادها على الخمسين مثل عدن، مكة، الجند، ندران، ذو المجاز، عطاظ، بدر، مجة، منى، حجر اليمامكة، هجر البحرين، الروض، روضة دعمي، روضة الأجداد على سبيل المثال، وذلك أنه جمع في هذا المقطع نجداً والحجاز، وكأنه يستحضر التاريخ بكل تداعياته وسياقاته المتداخلة والمتشعبة، لهذا يريد أن يربط أصالة التاريخ الأدبي والثقافي بعمقه الديني والقيمي والتاريخي، لا يريد أن يفصل بين الروح والجسد، ولا يسعى لعزل الإنسان عن هويته الثقافية أو عقيدته الدينية، فهما كالجسد والروح لا يفصل بينهما فاصل، لهذا يسعى بأن يشاركه حتى المكان في موقفه من الصراع الطويل بين الحق والباطال، بين الحياة والفناء، بين النور والظلام، لذا اختار هذا العنوان الموحي بالبدء وبوابة النشوء.

مشاركة :