في لحظة تجلٍّ، قال وزير الكهرباء الليبي ورئيس لجنة الأزمة لمتابعة القرارات الخاصة بإجلاء الكتائب والجماعات المسلحة من المدن الليبية، علي المحيريق «لم تواجهنا أي معوقات مع أي تشكيل مسلح في الخروج من المدن الليبية»، في محاولة لطمأنة الشعب الليبي، الذي ضج من المسلحين وكتائبهم وخرج مطالباً بإبعادهم عن المناطق الآهلة بالسكان، خصوصاً من المدن الكبرى. لا شك أنه تصريح متفائل جداً، يعبر عن رغبة كبيرة لإعادة الاستقرار إلى ليبيا بعد أن انتشرت الكتائب والمسلحين في مختلف الأمكنة والمناطق الحساسة، لتشكل عائقاً كبيراً أمام التنمية الإنسانية في بلد خرج من حرب دمرت كثيراً من بناه التحتية المحدودة، التي كانت موجودة إبان حكم العقيد معمر القدافي وما قبل ثورة الفاتح نهاية الستينيات، فقد كان العقيد ومنذ العام 1975م يسعى لتطبيق النظرية العالمية الثالثة التي جسدها في «الكتاب الأخضر»، بما فيها إنشاء النهر العظيم تيمناً بسور الصين العظيم، فذهبت المليارات على العلاقات العامة والإعلام والدعم غير المعروفة أهدافه، وفي تنصيب نفسه ملكاً على ملوك إفريقيا! تواجه ليبيا ذات الستة ملايين ونصف المليون نسمة تحديات كبرى لإعادة الاستقرار وبناء ما دمرته الحرب والتأخر في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية بعد عقود من الجذب والقحط وانعدام الرؤية. فبعد سقوط القذافي، تمترست الكتائب والجماعات المسلحة عند منابع النفط وموانئ تصديره ومحطات تكريره، فتراجع الإنتاج من مليون ونصف المليون برميل يومياً قبل الحرب الداخلية إلى نحو 100 ألف برميل يومياً. ومع أن الإنتاج عاد إلى مستواه في بعض الأشهر، إلا أن الوضع المضطرب أوصل ليبيا إلى حافة الإفلاس، نظراً لاعتمادها شبه الكلي على النفط، حيث يشكل نحو 95% من عائداتها، و60% من العائدات الحكومية، و30% من الناتج المحلي الإجمالي. وكان حجم الاقتصاد الليبي يبلغ 80 مليار دولار في 2010م، بعد تعافيه وخروجه من الحصار والعقوبات الدولية، التي كانت مفروضة عليه على خلفية عديد من القضايا أهمها قضية تفجير طائرة بان أمريكان فوق مدينة لوكيبربي، واضطراره إلى تسوية القضية ودفع مئات الملايين من الدولارات، وتسليم بعض من مواطنيه أبرزهم المقراحي للمحاكم الدولية. وقتها كانت ليبيا تخطط لمضاعفة إنتاجها من 1.6 مليون برميل يومياً في 2010م إلى ثلاثة ملايين برميل يومياً في 2014م، مستندة على احتياطي مؤكد يصل إلى 41.5 مليار برميل من النفط. بعد سقوط النظام وانتشار الفوضى وتذبذب الإنتاج ليصل إلى مستوياته الدنيا القريبة من التوقف بسبب الاضطرابات وسيطرة المسلحين على منابع النفط وموانئه، الأمر الذي قاد الجيش الليبي إلى تحذير مقاتلي الميليشيات السابقين ومحتجين بضرورة إخلاء الحقول النفطية والمرافئ التي يحتلوها والسماح باستئناف تصدير النفط. وقال إن ليبيا مهددة بالفوضى، وأنه سيوقف رواتب المسلحين الذين يرفضون الالتحاق بالقوات المسلحة النظامية بحلول منتصف شهر ديسمبر الجاري. هذا التهديد سبقته محاولات باءت بالفشل قام بها رئيس الوزراء علي زيدان لإنهاء سلسلة اعتصامات وإضرابات يقوم بها حراس أمن وموظفون حكوميون ومسلحون يرفعون مطالب متعددة ومتناقضة في بعض الأحيان، مثل المطالبة بالأمن والحكم الذاتي لبعض المناطق ونصيب أكبر من الثروة، في الوقت الذي تراجعت فيه الصادرات بسبب هذه الفوضى إلى أقل من 100 ألف برميل يومياً في أكتوبر الماضي، تراجعاً من 450 ألف برميل يومياً كانت ليبيا تصدرها في شهر سبتمبر، ما يعتبر أسوأ أزمة تشهدها ليبيا قد يقود استمرارها إلى عدم القدرة على تسديد أجور مواطنيها. فقد بلغت الخسائر بسبب الفوضى واستحواذ المسلحين على النفط إلى خسائر تُمنى بها ليبيا وتقدر بنحو 130 مليون دولار يومياً، فيما تشير بعض المعلومات إلى أن البلاد خسرت حتى الآن قرابة 13 مليار دولار. تدحرج الاقتصاد الليبي إلى هذه المستويات المتدنية جعل صندوق النقد الدولي يقدم صورة قاتمة للاقتصاد الليبي، فتوقع أن يشهد انكماشاً قدره 5% بسبب الاضطرابات وما ينتج عنها من تذبذب في إنتاج النفط، وسيطرة المجموعات المسلحة على أهم المرافئ النفطية. يضاف إلى ذلك فإن استمرار الفوضى «الإنتاجية» تعني عدم قدرة طرابلس الغرب على تنفيذ التزاماتها وعقودها مع الآخرين، بينما الاتفاق الذي وقّعته مع تونس بتزويد الأخيرة عشرة ملايين برميل خلال الفترة من أغسطس 2013 حتى نهاية 2014م، بمعدل 450 ألف برميل شهرياً في العام الجاري، ترتفع إلى 650 ألف برميل في العام المقبل. هذا يعني أن المبادلات التجارية تواجه خللاً في غير صالح ليبيا التي تعتمد على النفط بشكل رئيس. في ظل هذه الأوضاع المربكة والمتوترة، أعلن المؤتمر الوطني الليبي العام (البرلمان) يوم الأربعاء الماضي (4 ديسمبر) بياناً حسم فيه الجدل الدائر بين أطياف المجتمع وداخل أروقته ليقول «إن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع في ليبيا، وكل ما يخالف أحكامها يقع باطلاً. وأن كل مؤسسات الدولة ملزمة بذلك». إن خطوة كهذه قد تسهم في تبريد التوتر الحاصل، خصوصاً من قبل بعض المجموعات المسلحة التي تتهم المؤتمر العام بعدم تطبيق الشريعة الإسلامية، لكن الجدل لن يتوقف مع عملية الحسم الجديدة، حيث تبدي أطياف أخرى تحفظاتها على استخدام هذه الطريقة في إقرار التوجهات المفصلية لمستقبل ليبيا. ربما ينبغي الانتظار لكي تخرج ليبيا من كبوتها وتراجع أداءها الاقتصادي والشروع في عملية التنمية الإنسانية الشاملة التي تأخرت كثيراً، فيما انتشرت ظواهر جديدة وغريبة على المجتمع الليبي، الذي يتوق إلى بناء بلاده وإيجاد علاقات متوازنة مع جيرانه قائمة على الاحترام المتبادل.
مشاركة :