كان من الصعب جدًا على سعد الحريري أن يستمر في إكمال مشروع والده الشهيد رفيق الحريري في إعادة بناء لبنان العربي الحر الحضاري المستنير ونقله إلى المستقبل، فأعلن استقالته وحزبه؛ حزب المستقبل؛ من الحياة السياسية في لبنان بعد أن أدرك أنه لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة كما قال. لقد قدّم رفيق الحريري مثالاً للزعيم الوطني القادر على استعادة أمجاد وطنه، ومهما اختلفت الآراء بشأنه، يبقى مؤكدا أن لبنان شهد في عهده فترة أمن واستقرار وازدهار، وتمكن من البدء باستعادة دوره الإقليمي انطلاقًا من بعده العروبي وعلاقته المتميزة خصوصًا مع دول الخليج، لكنه دفع حياته ثمنًا لذلك عندما اغتالته يد الغدر الإيرانية من خلال حزب الله كما أثبتت المحكمة الدولية، لتحكم هذه اليد الآثمة قبضتها على عنق لبنان، وتعيده إلى عصور الظلام. بعد استشهاد والده ترك سعد الحريري رغد العيش الذي كان فيه وقبل تحدي الدخول في معترك السياسة، متسلحًا بالعزم والتصميم على مواصلة طريق والده، رغم أنه يعلم مسبقًا الفاتورة المرتفعة التي سيدفعها، بما فيها تعريض حياته للخطر، وتراجع أعماله، والتخلي عن بعض صداقاته، ومضى الابن على خطى الوالد في احتواء التيارات المتناحرة في لبنان، والحفاظ ولو على حد أدنى من أرضية مشتركة للتفاهم مع حزب الله تحديدًا، والذي كان متوقعًا منه أن يبقى حزبًا سياسيًا وألا يلجأ إلى تصويب سلاحه على اللبنانيين، وحرف مسار لبنان من العربي الأصيل إلى الفارسي التابع. أنا لا ألوم سعد الحريري على قراره بالتنحي، والذي بناه على كثير من النكسات السياسية التي مني بها منذ اغتيال والده وحتى الآن، فالرجل دخل معترك السياسية مجبرًا أخاك لا بطل، وفي كل مرة اعتقد أنه يحارب وظهره إلى جدار يكتشف أن ظهر خصمه السياسي، حزب الله، يحمى بشكل أكبر، سياسيًا وإعلاميًا وعقائديًا وحتى بالسلاح، ما أعطاه إمكانية أكبر للمناورة، وأن يضم تحت جناحيه شخصيات قيادية من تيارات لبنانية أخرى بما فيهم الرئيس ميشيل عون نفسه، والذي ظن الجميع، بما فيهم الحريري، أنه سيكون رئيسيًا لكل لبنان، لذلك دعموه، لكنه أثبت لاحقًا أنه مكبّل فكريًا وسياسيًا وبرغماتيًا بحزب الله. لقد جاء قرار الحريري بعد سلسلة انتكاسات مني بها ماليًا وسياسيًا في السنوات القليلة الماضية، وفي ظل أزمة سياسية واقتصادية ومالية حادة تشل لبنان، ولا ننسى أن الحريري أقدم على عدة تسويات يمكن وصف بعضها بالتنازلات؛ وذلك لمنع حصول حرب أهلية في لبنان، من بينها احتواء تداعيات السابع من مايو إلى اتفاق الدوحة إلى زيارة دمشق إلى انتخاب ميشال عون رئيسًا إلى قانون الانتخابات وغيرها، لكن النفوذ الإيراني في لبنان وقف في كل مرة عائقا أمام حصد نتائج تلك التسويات على صورة استمرار عمل الدولة ورفاهية المواطن اللبناني. فمنذ العام 2004 وحتى الآن شهدنا محاولات الكثير من رؤساء الوزارة في لبنان لتنقية الأجواء، وكانت مواقفهم وتصريحاتهم دافئة تجاه أشقائهم العرب، ولكن مع الأسف كانت أذرع إيران تلتف عليهم في كل مرة، وفي كل مرة تغلب حزب الله على كل اللبنانيين، تارة بالسياسية وتارة بالسلاح والتخويف والترهيب. إن قرار الحريري بالعزوف عن العمل السياسي خلط الأوراق في لبنان، ولا شك أن غياب بيت الحريري عن المشهد السياسي، البيت الذي يشكل الاعتدال السني، والذي لعب دورًا مهمًا في اتفاق الطائف سيفتح الباب أمام أشخاص ومجموعات ستنقل السنة إلى مواقع أخرى لم تكن فيها الطائفة في زمن الحريري، دون أن ننسى أن اعتكاف الحريري ربما يؤدي إلى غياب الاعتدال السني لصالح التطرف. لبنان بلد محكوم بالطائفية والطوائف، والتوازنات الدقيقة بينها، لكن لا شك أنه من الخطورة بمكان اضمحلال الكتلة السنية الوازنة مقابل تكون كتل صغيرة، كما هي الحال في الصف المسيحي والدرزي، بالتالي يكون التغيير قد حصل داخل كل الطوائف باستثناء الطائفة الشيعية التي تمكنت من الحفاظ على كيانها كما هو، وهكذا تحقق إيران هدفها في أن تصبح جميع الطوائف أقليات في دولة «حزب الله». ربما يكون لانسحاب الحريري من المشهد السياسي تأثير كبير على التوازنات الوطنية، لا سيما أن البديل لا يزال غير واضح، والأكيد اليوم أن المعادلة القائمة على «القوي» من كل طائفة قد اختلت، ولم يعد واضحًا الآن كيف يمكن عقد تسويات كبيرة على مستوى رئاسة الحكومة أو رئاسة الجمهورية وحكومات الوحدة الوطنية. وباعتقادي لن يؤدي قرار الحريري بالاستقالة إلى إطلاق يد حزب الله، لأن يدهم طليقة أصلاً، فالمشكلة لم تعد في النفوذ السياسي، ولدى إيران ما يكفي من النفوذ في لبنان، المشكلة باتت في وضع البلد ومن هو القادر على انتشاله من كبوته ومصيبته، وإلا فنكون نقاتل على جيفة، لذلك أؤكد أن دفع الاحتلال الإيراني هو مسؤولية وطنية مشتركة وليست حكرًا على طائفة أو حزب أو تيار. والحقيقة المرة التي عكستها استقالة الحريري وحزب المستقبل من الحياة السياسية هي أن لبنان ذاهب إلى الأسوأ، فلو كان الحريري مقتنعًا بأن هناك فرصة أو مرحلة جديدة من الاستقرار لما كان اتخذ قرارًا كهذا، وتترسّخ أمامنا الآن صورة أوضح للبنان وهو يتحوّل من «سويسرا الشرق» إلى «جبل الديون». عقب جريمة اغتيال رفيق الحريري قال لي صديق لبناني سياسي ورجل دولة بارز: «رحم الله لبنان، لن يستطيع أحد أن يقف منذ الآن فصاعدًا في وجه أعدائه، قلت له: ماذا عن مواجهتنا مع إسرائيل؟ فابتسم، وقال إن مصلحة إسرائيل أن يعود لبنان إلى عصور الظلام وأن تختفي عنه كل مظاهر الحضارة والتقدم لتبقى إسرائيل تقدّم نفسها على أنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط ومنارة للتقدم والعلم والثقافة، وهذه خدمات جليلة تقدّمها إيران لإسرائيل في لبنان».
مشاركة :