لم يقتصر الانتشار المفاهيمي لـ«اللابعد» على عالم التقنية وانبساط الوسائل الهينة السهلة التي ذللت مصاعب التواصل والإنتاج البشري، وبخاصة أن ذات المعطيات سمحت لانكشاف كل ما كان مستتراً فيما سبق، دافعةً بوعي جديد. فالمجتمعات الإنسانية التي تعيش حالةَ «صدمة» حيال بعض القضايا والظواهر الاجتماعية، بدأت تمتلك أدوات التفريق فيما بين المستجد والمتأصل منها، وبخاصة بعد اكتشاف «العالَم الجديد الجديد» الذي صار أرضاً للتقارب، والبقعة الواحدة التي فرضت على الكرة الأرضية، دون استثناء أي جو أو بحر أو بر منها، «عولمةً عميقةً» تتركز على القيم الأخلاقية، وتسهب في براهينها المتجهة نحو حتمية تضافر البشرية، وتوقيعها الضمني على ميثاق الأخلاق والمبادئ الإنسانية المشتركة، التي تصب في عصَب المصير المشترك، الذي إن كان خياراً، بات ضرورةً تلحُّ على تحقيقها الطبيعة والذات. وبعد أن أنتجت الحداثةُ أدواتٍ مستجدةً تخطت التركيز على زيادة الإنتاجية المادية، لتصب اهتماماتها في صميم القيم الأخلاقية، لزم السير نحو بناء أدوات جديدة وآلات «أخلاقية»، تصنع من المدارس والمنازل، ووسائل الإعلام، ومنابر السياسة والدين، تموقعاً استراتيجياً لبث رسائلها السامية، والنهوض بكل مواضع التقصير، أو الهشاشة من خلال التقويم، بدلاً من التقييم وحسب، وصولاً لقلب الموازين الخاطئة من الكراهية والفرقة، والانحراف للتطرف، للمعايير المشرقة من التكاتف والتسامح، والتعايش العالمي. إن المعطيات المتسارعة، وجهت التفات الإنسان نحو المعنوي والمحسوس، أكثر من الاكتفاء بالملموس، ففي حين أن القيم الأخلاقية، كالاحترام، والصدق، والتسامح، هي فضائل معنوية، إلا أن لها مالها من دور تجسيدي للقدرة على تقدير التنوع، والعيش الآمن، وتقبل الآخر، بالتوازي والتمسك بالقناعات الشخصية، والحريات العقائدية، التي لا تتضارب وحرية الآخرين بالتمسك بقناعاتهم والقدرة على التمتع بالحقوق والحريات الشخصية من دون التعدي على حقوق الآخرين. مما يدفع بتلك الأدوات الجديدة، لتكون أهدافاً أكثر أهمية، في الاعتراف بحقوق الإنسان، وتسهيل خطة بناء الدولة الوطنية الحديثة، التي تحتضن الإنسانية بتناغم يشبه حضارتها وحاجتها. وفي تمعن سلم «القيم الأخلاقية»، فإن مدى ارتباطها في التكوين الفكري لدى الإنسان، وبناء ثقافته، وانعكاساتها على سلوكه، تجعلنا نعي مكانتها في تحقيق القصد الرباني باستخلاف الإنسان في الأرض، سيما أن وجود القاعدة الأخلاقية السليمة، تعني حماية وتحصين من الانحرافات، وبناء منظومة وعي، وبالتالي استشعار حقيقي بالمسؤوليات، والدور المحوري لكل فرد في إنجاح مشروع الأخوة الإنسانية العالمية، وتحقيق احترام الآخر، واستبعاد شتى ملامح الكراهية، وإحلال قيم التسامح بين المجتمعات. وبتر كافة الأساليب التي تنتهج استغلال الأديان، في تأجيج الكراهية، والإسهام في انحراف الفكر، وتشوه الثقافة، وفساد القيمة الإنسانية. ومن ناحية ثانية، فإن الاتجاه نحو بناء «بيئة متعادلة» في انتشار القيم الأخلاقية، والسمو بها، يشكل إحاطةً عميقة في فهم مقاصد الشريعة من الإنسان، ومبتغى الإنسان في حياته، إذ لا يمكن البتة الادعاء بتشابه النتائج عند فتح النافذة من مقبضها وكسرها، وكذلك الحال بالنسبة لتحقيق الأمن والاستقرار، الذي لا يمكن أن يكون له ذات النتاجات على المجتمعات البشرية الناضجة أخلاقياً من غيرها، وعلى الرغم من تنوع القيم والأخلاقيات التي نادت بها كافة المواثيق، والإعلانات العالمية، إلا أنها مجتمعةً لا تكاد تخلو من الدعوة للتسامح وتوحيد البشر على ذلك، وعليه، نرى أن توحيد الإفهامات المحيطة بالقيم الإنسانية يمثل صمام أمان حماية المجتمعات، ومنحها مساحة الطمأنينة التي تستحق، ويسمح ببناء ميثاق قيم أخلاقية يتسع ليضم العالم ككل، بحتمية تشبه حاجة العالم لغلاف جوي يسمح له بالتنفس، بعيداً عن انبعاثات التطرف، وغازات الإرهاب المقيتة. ومن قلب المطاحنات الناشبة بين الإنسان وكبرى تحدياته المعاصرة، نقول كما يقول المهاتما غاندي: «إننا سوف نكسب معركتنا لا بمقدار ما نقتل من خصومنا ولكن بمقدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل».
مشاركة :