الإشكالية الرئيسة تكمن في حالة المجتمعات التقليدية التي واجهت صدمة الحداثة بصورة شبه مفاجئة، هذه المجتمعات غالباً ما تتبنى المنتج المادي للحداثة، دون المبادئ والقيم التي أنتجته، كون هذه القيم تتعارض بشدة مع المعايير المُحددة لما هو مقبول أو غير مقبول على المستوى الديني والاجتماعي... من الجدير بالملاحظة أن مفهوم الحداثة اكتسب قيماً مشوهةً في الثقافة العربية المعاصرة، ولم يستطع أن يصبح مفهوماً يحمل مبادئ محددة مرتبطة بقيم عمل أو أهداف واضحة يمكن أن تسعى لها الثقافة العربية، ويبدو أن هذا التشوه الذي وُلد من قلب الثقافة العربية التي لم تكن متقبلة لقيم الحداثة أحدث حالة من الإرباك الثقافي أثرت على قيم ومفاهيم التطور التي يفترض أن تسعى لها المجتمعات العربية خلال القرنين الأخيرين. ويمكن أن نعزو مظاهر التخلف التي حبست العالم العربي طويلاً داخل حلقتها إلى وجود مقاومة خفية نشأت عن صدمة الحداثة المبكرة التي لم تكن على وفاق مطلقاً مع البنية التقليدية التاريخية التي شكلت الثقافة العربية خلال أكثر من ألف عام. كل ظاهر جديدة تنشأ وسط بنية تاريخية تقليدية، لابد لها أولاً أن تكون وضعت بذورها مبكراً في تلك الثقافة وتطورت داخل النسيج الفكري والقيمي القائم بشكل تدريجي حتى بلغت مرحلة النضج ثم تبدأ ببث شكوكها حول البنية القائمة وتحتويها ثم تتجاوزها. ولعل البنية الثقافية للمجتمعات العربية ظلت مقاومة ومتماسكة حتى بدأت بذور الحداثة بشكل لم يكن سهلاً رصده وتتبعه تقتحم هذه البنية منذ بدايات عصر النهضة العربية في مطلع القرن التاسع عشر. هذه البذور نمت وبدأت تظهر على شكل تحديات حقيقية وتحولت بعد ذلك إلى ظاهرة مهيمنة تحدت هويات المجتمعات العربية مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم. العامل الثاني الذي تحتاجه الظاهرة الجديدة الناشئة هو وجود مجتمع يتبني الظاهرة ويسمح لها بالتطور والنمو، ويبدو أن المجتمعات العربية، رغم مقاومتها الثقافية العالية، إلا أن هذه المقاومة ارتبطت دائماً بالمنظومة القيمية غير الحسية وسمحت في نفس لوقت للجوانب الحسية أن تندمج مع الظاهرة الجديدة طالما أنها لا تتعارض مع منظومة القيم. وبالطبع أن تلك المقاومة التي ارتبطت بالقيم غير الظاهرة تعرضت بعد ذلك إلى مجموعة من التكيفات نتيجة لظهور نخب ثقافية تماهت مع الحداثة وقيمها وحاولت أن تنشر هذه القيم على مستوى القاعدة الاجتماعية. على أن الإشكالية الرئيسة تكمن في حالة المجتمعات التقليدية التي واجهت صدمة الحداثة بصورة شبه مفاجئة، هذه المجتمعات غالباً ما تتبنى المنتج المادي للحداثة، دون المبادئ والقيم التي أنتجته، كون هذه القيم تتعارض بشدة مع المعايير المُحددة لما هو مقبول أو غير مقبول على المستوى الديني والاجتماعي. يقول أدونيس، في كتابه الثابت والمتحول "إننا اليوم نمارس الحداثة الغربية، على مستوى (تحسين) الحياة اليومية ووسائله، لكننا نرفضها على مستوى (تحسين) الفكر والعقل ووسائل هذا التحسين. أي أننا نأخذ المنجزات ونرفض المبادئ العقلية التي أدت إلى ابتكارها". لذلك فإن أدونيس يواجه المقلدين والماضويين بأنهم "يبحثون عن نموذج أصل أو يؤصلون الظاهرة ليمنحوها وجوداً أو شرعية". ويرى أن الثبات والاتباع "قادم من لحظة تاريخية سابقة ظل العرب بحكم عدم اعتقادهم بالنهايات منساقين لهيمنتها، وتتلخص في البحث عن أصل أو نموذج طارد لما عداه". لذلك فقد تطورت الثقافة التقليدية كي تنظر للتراث على أنه الأصل الثابت الذي يجب أن يتبع بينما أصبح كل مستجد أو حديث هو الطارئ والمرفوض. ويبدو أنه هذه الظاهرة مثلت على الدوام إشكالية تغذي أزمة الهوية وتصنع حواجز عميقة بين المجتمع وبين قيم الحداثة لا منجزاتها المادية. ولعل فكرة "الهبيتوس" Habitus التي أطلقها عالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو" Pierre Bourdieu، هي أقرب النظريات الاجتماعية التحليلية التي تساعدنا على فهم التحولات الثقافية. تؤكد هذه النظرية على أن التصورات المشتركة التي تميز مجتمعاً تبقى دون أن تتغير كثيراً، خصوصاً إذا ما عرفنا أن "الهابيتوس" تعني بالدرجة الأولى توافق التصورات القيمية المتوارثة لمجموعة من الناس على مستوى الوعي واللاوعي، التي عادة ما يستعيدون من خلالها هويتهم الثقافية والمنتجات التي أنتجتها. يرى "بورديو" أن "الهابيتوس" ليست مجرد عادات متوارثة بل هي مقدرة لدى هذه المجموعة من الناس على ابتكار حلول جديدة للمشكلات التي تواجههم دون أن تكون هذه الحلول مقصودة بحد ذاتها، وهي نابعة من تعلقهم الشديد بمنظومة القيم التي شكّلت مفاهيمهم ونظرتهم للعالم، وعادة ما تظهر هذه الحلول على شكل اتفاق جماعي يميز ثقافة هذه المجموعة في مرحلة تاريخية محددة. ولتشخيص الوضع الراهن في الثقافة العربية، وحسب فريدريك معتوق، يبدو أن مكوّن هذه الثقافة تشكل من طبقات من "الهابيتوس" وجعلتها في حالة تشتت داخلي دفعتها إلى توليد مقاومات متفاوتة القوة تجاه الحداثة. يمكن أن نصف هذه الحالة بأنها استمرار لصدمة الحداثة المبكرة التي ولّدت كثيراً من التناقضات التي لم توضع لها حلول حتى يومنا هذا، وهي تناقضات تصنع حالات من الردة أو الرجوع للوراء ساهمت وتساهم في بقاء حالة ألا تطور التي عليها المجتمعات العربية.
مشاركة :