في ذروة تضارب الإرادات، وصخب الفوضى، وصراع المصالح، تعلو أصوات تذكّر بمنظومة القيم العليا؛ أصوات تعيد الأمل إلى النفوس المنكسرة، وتؤكد أن الدنيا ما زالت بخير. يعي الملتزم بتلك القيم أنها قيم مشتركة بين كل البشر، ولكل البشر، وأنها ليست حكرا على عِرقٍ دون آخر. ولا يصح أن ينظر إليها بمنظارين، فيُشجَب التَّغوُّل والجوْر في مكان، ويُقبل به في مكان آخر. الجرائم بحق الإنسانية واحدة، سواء وقعت في إحدى مدن العالم الأول، أو في غابة أفريقية. وخلافا لذلك التوجه، فإن منظومة القيم تفقد المصداقية، وتفقد مصداقيتها أكثر إذا ما تم تسييسها. فبعض السياسات متلونة، ولها أكثر من وجه، وقد تحركها المصالح. وإذا دخلت المصالح من الباب خرجت النوايا الحسنة من النافذة، واختلَّت منظومة القيم. لنتأمل مثالا على ذلك: ففي منتصف القرن العشرين تبلور نظام الوصاية الدولية. كان الهدف في ظاهره مقبولا، وهو تحسين الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للأقاليم التي لا تستطيع أن تدير شؤونها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بنفسها. فالوصاية، والحال هذه، تعني مساعدة تلك الأقاليم حتى تصل إلى سن النضج الحضاري، وتهيئتها لتمارس حكما ذاتيا. تدخَّلت المصالح والأطماع فأسيء استخدام النظام وأصبح شكلا من أشكال الهيمنة الاستعمارية. وأصبحت المجتمعات الخاضعة للوصاية كالأيتام على مائدة اللئام. وكان العالم بحاجة إلى وصاية على الأوصياء أنفسهم. وفي التعامل غير المنصف، والعلاقات غير المتكافئة بين الغرب وبقية بلدان العالم، وإزاء سياسات الهيمنة الغربية، ارتفعت أصوات من داخل الثقافة نفسها تناوئ سياسات الاستغلال والتَّغوُّل والإفلاس السياسي. كان لكل مثقف منهم مواقفه من قضايا الإنسان العادلة، ولكل واحد منهم عقله التحليلي النقدي، وتفكيره المستقل، لذلك غردوا خارج السرب. لم تكن تلك الأصوات ضوءا في آخر النفق، وفقا للتعبير السائد، بل ضوء في داخل نفق العتمة، وبوصلة في ليل المتاهة. ويمكن، لولا ضيق المساحة، استعراض بعض الأسماء التي بقيت مخلصة للمبادئ التي ناضل الإنسان من أجلها. مع ذلك، سأكرس بقية المقال للحديث عن شخصية الكاتب والشاعر والدبلوماسي الفرنسي ستيفان هسل. كان هسل ألماني الأصل، وأحد الناجين من معسكرات الاعتقال النازية. ثم أصبح مواطنا فرنسيا، وانضم إلى المقاومة الفرنسية، وساهم في صياغة لائحة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية 1948م. والتزم بقيم ومبادئ الجمعية الوطنية الفرنسية. وعندما رأى تلك المبادئ والقيم التي حارب جيله من أجلها تُحرّف الواحدة تلو الأخرى، رفع الصوت عاليا منتقدا ما آلت إله الأمور، وكان كتابه المعنون (اغضبوا) دعوة لتصحيح المسار، والعودة إلى تلك القيم. يخاطب هسل الجيل الجديد قائلا: «إن أسوأ المواقف هو اللامبالاة.. فإذا صادفتم من الناس أحدا لا يستفيد منها (أي لا يستفيد من مبادئ حقوق الإنسان) فارثوا له، وساعدوه على تحصيلها». (ترجمة صالح الأشمر). أما مواقفه المتوازنة والعادلة من قضايا الشرق الأوسط، والعربية بشكل خاص، فقد أثارت حنق ذوي المعايير المزدوجة الذين يكيلون بمكيالين، وينظرون للأمور بمنظارين. يصل الصدق بحراس المثل العليا إلى قبول الخسارة، إذا كانت المكاسب لا تتحقق إلا بطرق ملتوية، لإدراكهم أن الإنسان بلا أخلاق مجرد كائن متوحش منفلت. في المقابل، وعلى النقيض منهم، يعتبر أولئك الذين أضاعوا البوصلة الحديثَ عن القيم والأخلاق شكلا من أشكال الرومانسية الحالمة، فليس مقبولا لدى هؤلاء أن تكون رومانسيا ولا حالما في ماراثون المصالح وحسابات الربح والخسارة.
مشاركة :