يجب عدم امتهان التشكيك في ذمم الآخرين، سواء مسؤولي الرياضة، أو حكام المباريات، فمن شيمِ العربِ العظيمة عدم التشكيك في إنجازات المنافس، ولبعض شعرائهم قصائد ومقطوعات تُسمّى الـمُنصفات؛ لأن قائليها يُنصفون الخصوم ويعترفون لهم بما أنجزوا.. للتأثير في الناس أدوات كثيرة، تختلف باختلاف الأزمان والأحوال، لكنها متفقة في حساسية التعاطي بها؛ لأنها إن استعملت في المنافع فما أجمل آثارها، وما أطيب ثمارها، وهل وراء ذلك غبطة لمغتبط؟ الجواب: لا، فما طَمَحَت نفوس أهل الهمم العالية إلا لنيل أدوات النفع واستخدامها فيما تكون له العوائد الناجعة، وإن استعملت في المضارِّ كان وقعها أنكى من وقع السيف الصارم؛ وإن جُعلت على الحياد بحيث لم تُوظَّف للإصلاح ولا للإضرار جعلها ذلك عُرضةً للاضمحلال؛ لأن المواهب إذا عُطِّلتْ تعطَّلَتْ، وما هي إلا فرصٌ سَنَحَتْ لمن كُتبت له، فإن فوَّت انتهازها فإما أن تتضاءل حتى تزول، وإما أن يَبُورَ من مكاسبها النافعة ما لو استُثمر لنفع، ولا شك أن الإعلام الرياضي من أدوات التأثير في هذا العصر، والبابُ مفتوحٌ على مصراعيه أمام الإعلاميين الرياضيين ليؤثروا -إيجاباً أو سلباً- في ملايين المهتمين بالرياضة، وفيما يلي وقفاتٌ تُشخِّصُ أساليب التأثير الإيجابي المطلوب، وتُنبّه عن بعض مكامن التأثير السلبي: الأولى: يجب أن يُعلم أن عقول المجتمع -وخاصة الناشئة- أمانةٌ في عنق كُلِّ متحدثٍ وكاتبٍ، وإعلاميٍّ، وأشباههم ممن يجلس الإنسانُ ليقرأ لهم أو يسمع منهم، وكلما كانت آلة الإيصال أقوى وأبعد مدى ازدادت المسؤولية الملقاة على عاتق صاحبها، والإعلام الرياضي له نصيبٌ وافرٌ من قوة الآلة وبُعدِ مدى الصوت، وذلك مصحوبٌ بالشغف الكبير الذي يحدو جمهوره، فقد اجتمع في هذا الصدد وفرة الجمهرة المخاطَبة، وحفاوتها البالغة بالموضوع المتعلق به الخطاب، وهذا يجعل التأثر بالغاً، فليستصحب المؤثر هذه الحقيقة، وليُفكِّر دائماً أن المطلوب منه أن يترك الأثر الطيب، وأهم ما يُعِينُهُ على ذلك أن لا يُخاطب الناس إلا في حدود أخلاقياتنا وقيمنا الاجتماعية الراسخة النبيلة والمقررة من ديننا الحنيف، فهي بإذن الله صمامُ أمانٍ لمن دار داخل دائرتها، وهذا يقتضي الاعتدال في الطرح وعدم التطرف في النديَّةِ، فعُقبى التّصلُّبِ وخيمة، ومن شأنها أن تصنع من المشاهد والقارئ شخصيةً منحرفةً عن مسار العدل والإنصاف. الثانية: أن كل إعلامي يجب أن يكون قدوة لغيره، وخاصة من يُتابعُهُ، فلا يرون منه تجاوزاً ولا ظلماً ولا حيفاً، وأن يبتعد كل البعد عن التصرفات التي تُهيّج الشارع الرياضي، أو شريحة معينة منه، وأن يلتزم بأخلاقيات المهنة سواء انتصر فريقه أو هُزم، فالرياضة مبناها على المنافسة، والمنافسة ينتج عنها انتصارٌ وهزيمةٌ، وهذه تقع وتحصل في الأمور التي هي أهمُّ من الرياضة، والمقصود أن نكون واقعيين مُتّزنين، ومن الاتزان سعة صدر الإنسان وتماسكه في المواقف السّارة والضّارة، بحيث لا يستفزه الفرح إن نال مرغوبه، ولا يُنهِكُهُ الأسف إن ناله ما يكرهه، ولا يعني ذلك أن لا يفرح وأن لا يحزن، بل الذي يتحاشاه الأقوياء هو الفرح المستفز، والأسف الذي يهدُّ أركانَ صاحبه وهو الجزع الذي يُستحيا منه، وقد تغنى بهذا المبدأ النبيل شعراء العرب قديماً فقال أحدهم: إنْ نُصادِفْ مُنْفِساً لا تُلْفِنا ... فُرُحَ الخيرِ، ولا نَكبو لِضُرّ وقال آخر: وَلَسْتُ بِمِفرَاحٍ إذَا الدَّهْرُ سَرَّنِي ... وَلا جَازعٌ مِنْ صَرْفِهِ الْمُتَقَلِّبِ وتمدُّح العرب بهذا المبدأ لا يقتصر على الأمور العادية، بل هو حاصلٌ في الأمور الجدّية التي تمسُّ الحياة مباشرة، وتقلب أوضاع الناس رأساً على عقب، كالانتصار في المعارك والانهزام فيها، فالعربي الصُّلب العزيمة، القوي الشكيمة -حسبما يُصوّرُهُ التراث- لا يطير فرحاً بنصرٍ مؤزرٍ في المعركة، ولا يتضعضع لهزيمةٍ حاقت به، قال قائلهم: لاَ يَفْرَحُونَ، إذا نَالَتْ رِمَاحُهُمُ ... قَوْماً، وَلَيْسوا مَجَازيعاً إذا نِيلوا وإذا كان هذا في الحرب فمن باب أولى أن يظهر المحلل للنتائج الرياضية برباطةِ جأشٍ، فيعتدل في فرحه بنجاح فريقه أو تألمه بخسارته، وباعتداله يُجنِّب المتابعين كثيراً من الآثار السلبية خصوصاً فئة الشباب التي تتّسمُ بالمشاعر الجيّاشة. الثالثة: عدم امتهان التشكيك في ذمم الآخرين، سواء مسؤولي الرياضة، أو حكام المباريات، فمن شيمِ العربِ العظيمة عدم التشكيك في إنجازات المنافس، ولبعض شعرائهم قصائد ومقطوعات تُسمّى الـمُنصفات؛ لأن قائليها يُنصفون الخصوم ويعترفون لهم بما أنجزوا، ومن أبيات الإنصاف قول الشاعر: ولما لقينا عُصبةً تغلبيةً .... يقودون جُردًا للمنيةِ ضُمَّرا سقيناهمُ كأسًا سَقَوْنا بمثلِها... ولكنّهم كانوا على الموتِ أصبَرَا والعجيب الغريب أن يكون التشكيك في الآخرين مربوطاً بخسارته، وحصول النصر للمنافس، وترتبط القناعة بالأداء والوثوق به وبمن أداره من حُكَّامٍ بانتصاره وخسارة المنافس، فإن انتصر فالحَكَمُ من النزاهةِ بمكانٍ، وإذا انهزم فلا شكَّ أن الحَكَمَ خائنٌ ومن السوءِ بمكانٍ، وهذا يُفرِّغُ الرياضة من أهم مضامينها، وهو: "العدل والإنصاف".
مشاركة :