فكاهة سوداء بحس سياسي ساخر في 'حقل الإسخريوطي'

  • 3/24/2022
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تدور أحداث هذه الرواية "حقل الإسخريوطي" للروائي والسياسي المالطي ألفريد سانت حول تحقيق يجريه فريق البرنامج التلفزيوني "كويس كوام" حيث يسعى لتصوير حلقتين عن عالم الأشباح في مالطا. وقد اختاروا حقل الإسخريوطي الواقع بإحدى قرى مالطا المهجورة التي لها تاريخ طويل من الوجود السحري والخطير للأشباح التي تظهر نفسها. يرغب الفريق في تقديم برنامج حول ما يجري في حقل الإسخريوطي، الواقع إلى جواره الضريح المخفي لـ "هال سافليني". في غضون ذلك، وفي الوقت نفسه يدرس باحثون جامعيون أسباب الخوف الذي كان يستهدف القرية لفترة طويلة. لكن لسوء الحظ أدت هذه التحقيقات إلى تطورات دراماتيكية تنتهي بحمام دم رهيب. التاريخ أيضا جزء من خيوط الرواية، التي ترجمها عبد الرحيم يوسف، وصدرت أخيرا عن دار صفصافة، حيث تتساءل: بعد أن قام يهوذا الإسخريوطي بخيانة السيد المسيح وأسلمه لليهود، ندم على فعلته وأعاد لهم ما أعطوه من فضة وشنق نفسه. فابتاع رؤساء اليهود بماله حقلا، سُمي بحقل الدم.. ما علاقة هذا بحقل الإسخريوطي الكائن في قرية صغيرة بمالطا؟ وما علاقة هذا وذاك ببوتو - رع المحارب المصري القديم الذي خان بلده وانضم إلى الفينيقيين ليقود حملتهم البحرية لغزو غرب البحر المتوسط، ثم خان الفينيقيين وانضم إلى الإتروسكانيين؟ وما علاقة كل هذا بالبرنامج تليفزيوني يحاول تصوير حلقتين عن عالم الأشباح في مالطا؟. هكذا يمزج ألفريد سانت بين أسرار التاريخ والخيال العلمي وقصص الرعب والفكاهة السوداء في حس سياسي ساخر. حيث تتشابك عوالم مصاصي الدماء، والأشباح، والأسرار التاريخية لعلاقة يهوذا الإسخريوطي بخيانة السيد المسيح، جنبا إلى جنب مع المشاكل التي تسببها السمنة، واللقاءات الجنسية الهزلية، وتهريب المخدرات، والإرهاب، والحياة داخل الجامعة، ومشكلة الفساد المتفشية بين أروقة النخب، ومواضيع أخرى كلها تشكل جزءًا من نسيج الأزمات التي يعيشها المجتمع المالطي المعاصر. تخرج ألفريد سانت من جامعة مالطا بدرجة بكالوريوس العلوم في الفيزياء والرياضيات عام 1967 وماجستير العلوم في الفيزياء في العام التالي. ودرس الإدارة العامة في 1970 في المعهد الدولي للإدارة العامة (ENA) في باريس. شغل منصب السكرتير الثاني ثم السكرتير الأول في بعثة مالطا لدى المجتمعات الأوروبية في بروكسل، لكنه استقال لاستكمال دراسته حيث حصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من كلية الدراسات العليا للإدارة بجامعة بوسطن، والدكتوراه في إدارة الأعمال من كلية هارفارد للأعمال. في عام 1995 نشر سانت دراسة بعنوان "التحدي الأوروبي في مالطا" ضم مقالات ومقابلات تركز على حاجة مالطا لإقامة أفضل العلاقات الممكنة مع الاتحاد الأوروبي بما يتوافق مع موقع مالطا الخاص في وسط البحر الأبيض المتوسط. وبدأ حياته السياسية النشطة انطلاقا من عام 1982 عندما انضم لحزب العمال المالطي، وفي عام 1984، تم انتخابه رئيسًا للحزب وشغل هذا المنصب حتى عام 1988. وفي انتخب عضوا في البرلمان عام 1987. وقد قاد الحزب للفوز الانتخابي في الانتخابات العامة في أكتوبر 1996. وأدى اليمين الدستورية كرئيس وزراء مالطا في 28 أكتوبر 1996. وعقب خروجه من الوزارة تحول إلى المعارضة وقاد حملة عنيفة ضد انضام مالطا إلى الاتحاد الأوروبي، وانتخب في البرلمان عام 2014. بدأت مسيرة سانت الأدبية عام 1966 حيث فاز بالجائزة الأولى في مسابقة الكتابة وعام 1968 كان عضوا مؤسسا في مجموعة الدراما التجريبية المسرحية التليفزيونية الأولى في مالطا، كماعمل محررا بالعديد من المجلات الأدبية، ومنذ ذلك الوقت قدم للأدب المالطي ست روايات وثلاث مسرحيات ومجموعتين قصصيتين وخمسة كتب ثقافية وسياسية واجتماعية، وقد نال عددا كبيرا من التكريمات آخرها في 2019 حيث حصل على جائزة الكتاب الوطني لإنجاز العمر على إسهاماته في الأدب والثقافة المالطية. مقتطف من الرواية أخفت فلورا خيبة أملها: لكن ألا يصبو كل إنسان إلى تلك اللحظات من النشوة.. وعندما لا تحدث..؟ ربما كان الخطأ خطأها بعض الشيء في النهاية. كانت تحس أنها أقل طاقة من المعتاد، بعد أن تناست أن تأخذ هاتين الشمتين العميقتين اللتين اعتادت أخذهما من قبل.. كانت مازالت لا تحس بقرب كافٍ من لوري. وستكون مخاطرة أكبر من اللازم أن تقضي اللحظة أو اللحظتين الإضافيتين في الحمَّام اللازمتين لإتمام عملية شمها (بالتأكيد كان ليدرك ما كانت تفعله!) وهي لا تعرف كيف سيكون رد فعله. بأمانة، كان يخيفها قليلا، أو لعله كثيرا، لأنه كان من الواضح أنه رجل معتاد على السلطة، وفلورا تعشق مثل هؤلاء الرجال. لقد أبهرها وكاد يحبس أنفاسها منذ قليل وهما يتحادثان ويرشفان الويسكي في حجرة الجلوس بشقتها، عندما أبلغها بهدوء أنها ستعيَّن قريبا رئيسة للمعهد الوطني للثقافة بدلا من السيد أوروري، الذي سيعلن استقالته الوشيكة. وبينما كانا متمددين إلى جوار أحدهما الآخر في الطرف العميق من فراشها الكبير الدائرى، حكت جسدها بلطف في جسده، مفضلة أن تفكر فيما أبلغها به منذ قليل، بدلا من التفكير في أمور أخرى.. مثل الحقيقة العجيبة التي أطفأت جذوتها بمجرد أن لاحظتها.. تلك الرائحة الضعيفة جدا للديتول التي كانت تفوح من جسده كله، من رأسه إلى أصابع قدميه. تمنت أن تكون هذه رائحة مؤقتة، وليست ملمحا دائما فيه.. ترى من أين كانت تأتي؟.. لم تكن أبدا من قبل مع رجل يذكرها كثيرا بالمراكز الطبية. "أعجبني هذا جدا.." كان لورينتي مانيسكالكو يقول، وهو نصف مغطى بالبطاطين ويغوص بأطرافه أكثر فيها. كان مستعدا إلى حد كبير للمبالغة في متعته، لكنه أحس بإرهاق كبير. وغدا سيكون يوما طويلا بما أنه جاء على بال أحدهم أن يصدر قرارا بوجوب عمل جنازة رسمية لضحايا مأساة حقل الإسخريوطي.. لأن هذا ما كانوا يستحقونه. ربما كان ينبغي عليه أن يؤجل هذا اللقاء مع فلورا. كان يمكنهما أن يلتقيا في وقت آخر، لكنه كان يؤمن دائما أن الفطيرة ينبغي أن تؤكل وهي ساخنة وحديثة الخبز، رغم أنه من ناحية أخرى، إذا كانت مازالت أسخن من اللازم، فقد تحرق جوفك. "حسن، وأنا أيضا، كثيرا جدا!" أجابته، محاولة أن تمحو الانتقاد الصبياني بعض الشيء الذي مر بخاطرها عندما لمحت أطرافه العارية لأول مرة. كان ذراعاه وفخذاه وكذلك بقية ساقيه بهما بعض النحول، في الحقيقة كانت هزيلة جدا على ذوقها.. في نهاية الأمر، هو لم يعد رجلا في زهرة شبابه. وفي عالمنا هذا، لا يمكنك أن تنال كل شيء، والرجال الذين مازالوا أصغر سنا من اللازم صاروا يضجرونها مؤخرا. ولهذا كان برتراند يشعل شهوتها كثيرا؛ لأنه لم يكن طفلا ولا عجوزا.. بيد أنه في عالمنا هذا أيضا، لا ينبغي للمرء أن يضيع الوقت في الندم على ما فات.. ما حدث لبرتراند قد حدث، وكي يعيش المرء الحياة جيدا، لا بد أن يتطلع إلى المستقبل.. "لديك فعلا مكان لطيف هنا.." هتف لورينتي مانيسكالكو وهو ينظر حوله مبتسما، ويداه تستكشفان ما كان موجودا تحت الغطاء. "أوه! أجمل ما أجده في هذه المنطقة هو الهدوء.." جاوبت فلورا ابتسامته، وهي غير متأكدة فعلا إن كان يشير إلى ذلك الجانب من (سليمة) حيث تعيش، والذي أصبح بالفعل هادئا كالقبور، ربما لأنه لا يوجد غير العجائز يعيشون في المنطقة وأصبح صف السيارات مستحيلا. أم أنه كان يشير إلى أثاث حجرة النوم الذي استثمرت فيه طوال العامين الماضيين؟ أم ربما كان يقصد المكان الذي كانت أصابعه تستكشفه؟ لذا تابعت فلورا: "هذا هو المكان الذي آتي إليه لأكتب تلك الرواية التي ذكرتها. عندما تقبل ماما أن تعتني بطفليّ: ساندر وخريستو.. وأكون وحيدة تماما، آه، أكون ذاتي حقا.. وحيدة!.. هنا آتي لأكتب." "أفهم.." قال السيد مانيسكالكو، بينما استكشافاته تحت الغطاء تغدو أكثر إلحاحا. ألم يكن هذا ما هو متوقع منه؟ تساءل وهو يجاهد التثاؤب. تقلبت فلورا على جانب، مبتسمة ابتسامة عريضة. بالتأكيد لم تكن تريد أن تطفئ شهوته، لكن في هذه اللحظة كان أكثر ما تود أن تفعله هو أن تكتب خمس فقرات أخرى أو نحو ذلك. "أتعرف ما يمكننا أن نفعله؟" قالت مقترحة. "دعني أقرأ لك فقرة مما وصلت إليه في الرواية. ويمكنك أن تخبرني برأيك فيها!" "نعم، لم لا؟" أجابها، عازما على إرضائها. "لكن ينبغي أن تعرفي أن مهاراتي تكمن في كتابة التقارير، وليس الأدب." "سأذهب لآتي بالمخطوط.." قالت وابتسامتها تزداد اتساعا. ومع ذلك، لم يكن بمقدورها أن تجازف بالذهاب إلى الحمَّام بعد لتقوم بواحدة من عملياتها في الشم.. كانت الرؤية الكاملة لها وهي تغادر الحجرة قد ساعدته على الأقل في تقليل هواجسه بشأن ما كان يفعله الليلة. فكر قليلا فيما إن كان ينبغي أن يذكر الآن ذلك المشروع الذي كان يداعب أفكاره. من بين أشياء أخرى، سيتمكن قريبا من شراء أربع شقق فاخرة، فخمة الأثاث، كان يضع عينيه عليها منذ زمن طويل في (عقارات الحديقة الدانمركية الكثيفة). تفكر السيد لورينتي مانيسكالكو أيضا فيما يمكنه أن يفعله بواحدة من هذه الشقق في الفترة السابقة على بيعها مرة أخرى. كان عليه أن ينتبه كي لا يتورط في أي التزام من أي نوع مع أي شخص، لكنه في الوقت نفسه أحس بدغدغة إغراء أن يدعو شخصا مثل فلورا إلى واحدة من هذه الشقق لتمنحه بعض الصحبة. فبما أنه تمكن من تأمين كومة محترمة من المال، لم لا ينبغي عليه أن يستمتع ببعض الرفاهية؟ وعلى الملأ، كان يعامل زوجته بكل الاحترام الواجب، لكن وجودها قد صار منذ زمن طويل خبرة مملة كان عليه تحملها حتى يموت، أو تموت هي. عندما عادت فلورا بملف الرواية بين ذراعيها، وجدته تائها في هذه التأملات. ورغم إرهاقه، إلا أن وصولها أثار فيه أفكارا جديدة حول ماذا وأين يستكشف. ومع ذلك، أصرت فلورا على الجلوس إلى جانبه وهو متمدد، بينما يظل هو هادئا ويستمع إليها وهي تقرأ من حيث وصلت في كتابتها. شرحت له كيف أن بطلة الرواية، شابة ما اسمها لوسي، كانت تزور عمتها إيميليا التي تعيش في قرية (بيردنبريدج) في مقاطعة (سِري). كانت إيميليا متزوجة من طبيب مالطي، كارلو أو تشارلز، مات في شبابه في بيردنبريدج. بعد وصول لوسي بقليل، تصطحبها عمتها إلى جبانة القرية لزيارة قبر الطبيب الراحل. وخلال هذه الزيارة، أوضحت فلورا، يقابلان السيد ويتل، عمدة بيردنبريدج، الذي كان أيضا رجل أعمال معروفا في المنطقة. إلى هذا الحد وصلت توضيحات فلورا قبل أن تبدأ في القراءة من الأوراق التي كانت لديها في ملفها. أنصت السيد لورينتي مانيسكالكو إلى شرح فلورا، وأخفى قلة حماسه لما تقوله تحت ابتسامة رفيعة. كان يمسك في يد كأس الويسكي الذي جلبه إلى هنا من حجرة الجلوس، وباليد الأخرى كان يداعب ظهر فلورا العاري الذي كان به الكثير من المزايا والمتع. تركته يداعبها بينما هي تقرأ بحماسة عظيمة، ممثلة كل كلمة وعبارة تقرأها، كأنها خارجة من أعماق روحها. أنصت إلى صوتها واستمر في حساباته: تلك امرأة ستنفق كل ما في حوزة المرء لو أعطاها المرء شيكا على بياض. كانت بحاجة إلى رجل حازم ليقودها، وبإمكانه فعل هذا، هكذا فكر بقوة. كان يريد أن يستمتع بالأموال الإضافية التي ستجيء، دون أن يدعها تتحول إلى فوضى أو مأساة.. كان الصمت في حجرة النوم والشقة والعمارة كلها رهيبا وباعثا حقا على الاسترخاء، هكذا خلص المسؤول العمومي. كان هذا هو ما يحتاجه بالضبط فيما يتعلق بالراحة، بعيدا عن ضغط واجباته الرسمية الضخمة. ومع ذلك، صادف أن ما كانت فلورا تقرأه بدأ بشكل ما يلقي ظلا فوق تأملاته: كان السيد ويتل يحكي للوسي وإيميليا عن الجبانة التي كانتا في زيارتها وكيف أنها بحاجة للصيانة. لسبب غريب ما، فشل السيد لورينتي مانيسكالكو في فهمه، تراءى أمام عينيه بينما كانت فلورا مستمرة في القراءة، ذلك الهيكل البعيد الذي رأوه عند قمة حقل الإسخريوطي.. الرجل الذي كان يشبه برتراند صاحب برنامج كويس كوام الشهير، لكه كان يتحدث بصوت غليظ بلغة لم يتمكن أحد من فهمها، صوت جهوري يلقي بيانات لن تتأتى لأحد الفرصة للتحقق منها باستخدام التقنيات الموجودة، أو تلك التي قد يتم اختراعها في المستقبل. كان من الممكن سماع صوت فلورا، وهي منطلقة في قراءة قصتها، وكان المسؤول العمومي الآن يشعر بالانزعاج، بالقلق، بالحكة.. كان قد لاحظ بالفعل أن هذا الشعور ينتابه عند ذكر الفئران أو الجرذان.. لأن السيد ويتل في المقطع الذي كانت فلورا بيتا لوكا تقرأه من روايتها (التي حصلت لاحقا على الجائزة الأولى في المسابقة المقامة لأفضل رواية مالطية في العام) كان يصف كيف أن الفئران والجرذان في جبانة بيردنبريدج كانت تحفر أنفاقا تحت الأرض لتصل إلى القبور المدفون بها المواطنون المحترمون في تلك القرية السعيدة، وتصنع منهم وجبة طيبة. كان انزعاج السيد لورينتي مانيسكالكو حادا فعلا، لكنه لم يكن متأكدا من الطريقة التي يمكنه بها إيقاف فلورا من الاستمرار في قصتها. في حماستها الفنية، بدت له أشبه بعروس شعر عارية سقطت إلى جانبه من لوحة ما رسمها تيتيان.. أم أنه كان رفائيلو؟.. وبينما الاثنان منغمسان في تأملاتهما المنفصلة، استغرق الأمر منهما بعض الوقت ليدركا أن السلام والهدوء اللذين كانا يتمتعان بهما في الشقة يتعرضان لانتهاك وحشي. من حجرة خارجية أتت ضجة أشخاص يتعاركون. فقط عندما وصلت هذه الأصوات إلى الممر خارج حجرة النوم، سمع المسؤول العمومي وفلورا خطوات تقترب. وصرخ صوت امرأة عجوز: "لقد طفح بي الكيل منكما الآن! لا أريد أن أراكما مرة أخرى، أبدا، أبدا!!" انفتح الباب واندفع ولدان سمينان داخل حجرة النوم، يضرب أحدهما الآخر ويصرخان. وكذلك كانت السيدة والدة فلورا بيتا لوكا. في الحقيقة كانت تصرخ بصوت أعلى من الولدين. "ساندر! خريستو!" صرخت فلورا. متلويا في يأس، بذل السيد لورينتي مانيسكالكو أقصى جهده، لكن بنجاح ضعيف؛ كي يختبئ، أو بالأحرى كي يغطي جسده، أو على الأصح كي يكفن ويدفن نفسه في الملاءات والأغطية الموجودة في متناول اليد.

مشاركة :