العنوانُ يشير في المقام الأول إلى الأحداث التي يظنُّ الإنسان أنها محيطة به فحسب، لكنها تلتحفه، أو يلتحفها. قال أحد الغربيين تَعليقًا على الحرب الروسية: «أوكرانيا ليست العراق وسورية...». هل هذه عنصرية؟! ونحن نسأل هذا السؤال نستحضر إشكالًا؛ وهو أنَّ من يقول «إنها عنصرية الغرب» هو عنصريٌّ في أعماقِه؛ العنصريةُ التي جعلته يفرح بهذه المقولة؛ وكأنها لحظة انتقام من اتهام الغرب له بالعنصرية طوال تاريخه؛ فأرادَ أن يتطهّر بإلقاء الغضب على مصدر وجعه، وإرجاع الصفة إلى مصدرها، وكأنه - في اللاوعي- يصرخ بصوت عالٍ: كلنا عنصريون، فَلِمَ المزايدة؟. والسؤال: هل صدرت تلك المقولة من نَفَسٍ عُنصري يتوقف على إشكاليات نفسية فحسب، أم من واقع التأثير التاريخي لرحلة المتغيرات الجيوسياسية في نظر الغرب من جهة، وفي أفق الشرق المتقوقع في الماضي من جهة أخرى؟ إن هذه المقولة تحيل ذاكرتنا إلى التشرذم الذي أنتجته الثورةُ السورية، لدرجة أن تُسمى عند البعض إشكالا لا حل له!، وبعض آخر استعادَ كلُّ الصفات الدنيئة في الإنسان البدائي؛ ليحيل إليها الأسباب، بينما نجد مقولة ذلك الغربي - وهو ينظر إلى جغرافيا المنطقة بصفتها أرضًا مستقلة تنتمي لقواعد الصدى المركزي- تُشير إلى أسباب واضحة وغامضة في الآن نفسه. واضحة؛ لأنه - يظن - أنه ينظر من مركز الجبل المطل على ساحة المعركة فحسب. وغامضة؛ لأنَّه من المتحاربين أنفسهم، إذ لا وجود للصوت والصدى كمتمايزين في صراع الإنسان الوجودي. وهذه الأسباب-المتضادة بين الوضوح والغموض- وهي تصنع الشخصيةَ الغربية المتمثلة في هذه المقولة/الجملة الثقافية، هي التي تصنع الشخصية العربية، تلك الشخصية التي تصرخ: لا يوجد عندنا نقدٌ بالمفهوم الحضاري، ذلك الذي يصنع إنسانًا جديدا، «والجِدّة-هنا- مقياسها هي مقياس صاحب مقولة أوكرانيا وسورية، أي أن يكون الإنسان العربي ينظر إلى جغرافيا الآخرين، كما نظر ذلك الغربي، إذ لسان حالهم: «إذا كانَ يحقّ لفرنسا أن تفتخر بقوميتها وتحافظ عليها، فلماذا لا يحق لنا»! وهذا مفهوم ضمن مفاهيم قومية ما قبل التعولم والاستعمار القديم فضلا عن الاستعمار الحديث. وهذا يُرسخ لدى الاثنين -الغربي والشرقي- مفهوم التمايز الذي يجعل الإنسان يعيش في وحل الكتل الحزبية بمفاهيمها الحديثة، الكتل المتشكلة من أفراد يطالبون بحرية نقدية من واقع البحث عن وعي هويّاتي صلب، يُغيّر نفسَه فيُغَيّر. فهم يرون أنَّ ما يجري على أرض العرب هو مجرد ردة فعل مبنية على التأثير الخارجي، وهذا لم يَبعُد عن مفهوم نحن/هم، تلك التي تجعل سيرورة التاريخ انتقائية، ولم تلحظ أنَّ الصيرورة -النابعة من السيرورة التاريخية- تأتي بحسب تفاعلات المكان، ذلك الذي يَتشكّل من مجموع التغيرات الثقافية والجيوسياسية، وهي بدورها متشكلة من أفراد المكان، وتفاعلاتهم النقدية -ومنهم سياسيّوهم- وهذا ما يُفرقُ بين مكانين، كلاهما تلقى التدخلات الخارجية ذاتها. فالنقد -بهذا المعنى- ليس هو أن يكونَ لدى كُل فردٍ حرية النقد بمفهوم التمييز بين الصحيح والخاطئ!، ومن ثم يتغير فيغير، أو على الأقل لدى الأكثر-الذين يُشكلون كتلة نقدية - حرية، فيَحدث التَغيّر والتغيير من قبلهم، إذ هذا ما يُوطِّد الازدواجية في النظر بين إرادة فردية نحو مستقبل ممزوج بمنتجات اللحظات التاريخية في تدرّج القرون الماضية للحداثة الغربية، وبين انتكاس للبُنى النقدية المتشكلة من الأفراد، تلك التي يَظنّ أنها هي أمل المستقبل العربي، بما أنها كانت هي مصدر حداثة الغرب وإنسانها! لهذا نسمع من يقول «نحن لم ندخل الحداثة بعد، حتى ندخل إلى ما بعد الحداثة»!! وكأنها بابٌ من حديد، يقع في الحيز الغربي، وَوُعِد الشرق بنسخة منه!. وما نراه من السيولة المتناقضة في ممارسات الحياة، صورة من صور مرحلة المابعد، التي يعيشها العالم ككل، لكن باستحضار تأثيرات كُل مكان على حدة. والمابعد، ليست مرحلة بنيوية ليُشار إليها بالبنان، بل هي تفتيت للبُنى بحسب الأمكنة، وكُلّ تحولات النظام العالمي تنتمي للسيولة والصلابة في آن واحد؛ من حيث إنها معقودة الصلة بالحداثة كزمان أصيل في ثورة الصناعة، ومنتمية للمابعد كانطلاق من القيد البنيوي بتأثير الأدوات الصناعية المركزية في وعي الإنسان. ومن هُنا نفهم الحدث السوري بالتشكلات النقدية لموضعه الجغرافي، وثقافة مكانه، في صراعاته الداخلية بجميع تشعباتها، وصراعاته الخارجية وتغيراتها وأهدافها وتدخلاتها، ومن ثم فإننا نتأمَّل التغيرات التي تجري على سورية ومحيطها من واقع المفاهيم النقدية التي تعاطوا معها؛ لا ككتلة نقدية تشبه الكتلة النقدية القديمة، بل بمفهوم النقد المابعد، وهو أن يكون النقد حالة ممارسة تفاعلية مع العالم وتغيراته ومن ثم تتجمع الممارسات-بلا كتلة صلبة- فتصنع تغيرا؛ أي أنَّ التغيرات لم تكن ردة فعلٍ بلا تأثيرٍ مكاني بل هي تغير وتغيير لكن بمفهوم التغير في لحظتنا الزمانية. ومن هنا يأتي مفهوم المشاريع والرؤى الموجود الآن في المنطقة العربية، تلك التي لم تأتِ إلا من جراء التغيرات النقدية التفاعلية بين ظرف زماني وتحولات جيوسياسية. ومن هُنا فأيُّ قراءة لمشروع أو رؤية -قائمة في المنطقة العربية- من واقع الكتلة النقدية الصلبة القديمة فإن ذلك نكوص إلى الماضي من جهة، وتناقض مع التفاؤل بالمشروع العربي الجديد من جهة ثانية. التفكيك أقرب للخصوصية الفردية، بما أنه لا يَعِد أصحابَه بالتركيب فيما بعد، بل يضعهم أمام الشيء في حالة تفكُّكه، وأما الذي يُركّب فهو اللحظة الجمعية من خلال التشكل النقدي في مراحله المختلفة، أي مجموع التفاعلات الفردية الواعية واللاواعية بمزج التفاعل الزماني مع ظروف المكان المُشكّل من نسيج اجتماعي له مركزياته في اللاوعي الجمعي. أخيرا: لنحاول -قدر المستطاع- أن نموضع العالم العربي خارج منظار الذات المتفلسفة في عوالمها المنتفخة من جراء التاريخ المثقل بالأغلال... لا أن نذوِّت العالم العربي داخل تموضعنا.
مشاركة :