في جلسة جمعتنا مع أصدقاء قبل أيام أخذنا الحديث عن حالنا وحال المنطقة والأزمات المتلاحقة بها وما السبيل لحلها في ظل غياب البعد السياسي عن أعين القائمين على مناقشتها وبحثها، ولم يكن تنظيم داعش الإرهابي بعيداً عن مناقشاتنا وربما اتفقت آراؤنا بشأن تأسيسه، ولم يتطلب الأمر منا التفكير كثيرا في الوصول للجهة التي مولته أو على الأقل ساعدته وجعلته ينمو كالعشب في العراق وسوريا ويمتد عابرا الأوطان والقارات والبحار إلى أوروبا وإفريقيا، وفي حين أن الولايات المتحدة تدعي أنها بمأمن من هجماته وتفجيراته، فربما يأتي تحليلها هذا لأنها المؤسس لها، أو هكذا يمتن لها قادة هذا التنظيم الإرهابي الذي لولاها لما قامت لهم قائمة وجمعوا كل هذه الثروات الضخمة من تعاملات في النفط والتحكم في آباره وأموال البنوك التي نهبوها وليس آخر المتاجرة في السبايا وجهاد النكاح. إنها الحرب التي تريدها الولايات المتحدة وتعمل بكل قوتها لإشعالها في المنطقة التي جعلت منها ميدان رماية لحروب العالم وفيها كل أنواع العتاد العسكري، الذي يتم تجريبه واستخدامه مجانا ولكن على حساب مستقبل شعوب المنطقة.. كنا قد تحدثنا عن تفجيرات باريس في الأسابيع الماضية، وما تبعها من جولات مكوكية لرئيس فرنسا مع قادة دول العالم لتأسيس تحالف دولي جديد يكون هدفه محاربة داعش ثم القضاء عليها نهائيا، وبالفعل أعلن الرئيس الفرنسي بعد كل لقاء قمة مع نظير له مثل المستشارة الألمانية مارجريت ميركل والبريطاني ديفيد كاميرون والروسي فلاديمير بوتين وكان سبقهم جميعا باراك أوباما الذي نركز على مضمون كلامه للشعب الأمريكي بعد لقائه مع هولاند. نقول بداية إن تفجيرات باريس أصابت الأوروبيين والعالم بصدمة نفسية مفاجئة ربما لم يفكروا في حدوثها مطلقا، فأربع هجمات متزامنة هزت العاصمة الفرنسية باريس ولولا رحمة ربنا لطالت إحداها آلاف مشجعي كرة القدم في مباراة ألمانيا وفرنسا، ناهيك عن احتمال مقتل أو إصابة الرئيس الفرنسي نفسه الذي كان حاضرا لمشاهدة المباراة. هذه الواقعة وحدها بدون التفكير في بقية الهجمات كفيلة بنشر الذعر بين أفراد أي شعب في العالم، فما بالنا شعوب اعتادت على السكينة والأمان، وتعتبر نفسها بعيدا عن ميدان الرماية الذي افتتحوه في منطقتنا ليأكلنا ويبلعنا ولا يترك فيها حرثًا ولا نسلًا. إنه الميدان الذي استبعد أوباما في كلمته للشعب الأمريكي بمناسبة تهنئته بعيد الشكر، وجود تهديدات ذات مصداقية من تنظيم داعش ضد الولايات المتحدة، الرئيس الأمريكي لم يتحدث سوى 5 دقائق ربما أوجز فيها إستراتيجية بلاده للتعامل مع ميدان الحرب في منطقتنا، حيث أشاد فيها بإنجازات أجهزة الأمن والاستخبارات ومسؤولي مكافحة الإرهاب على اتخاذ كل الخطوات لتأمين بلاده والحفاظ على الأمن. كان على رأس أولويات الرئيس الأمريكي طمأنة مخاوف شعبه من وقوع هجوم إرهابي محتمل٬ وقال: أريد أن يعرف الشعب الأمريكي أننا نتخذ كل الخطوات الممكنة للحفاظ على أمننا. وبالطبع كان يقف بجانب الرئيس الأمريكي كبار مسؤولي الأمن مثل وزير الأمن الداخلي جي جونسون٬ والنائب العام، لوريتا لينش٬ ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي٬ ومستشار الأمن القومي سوزان رايس٬ ومستشار مكافحة الإرهاب ليزا موناكو، فهو تحدث وهم بجانبه ليحملهم مسؤولية كل كلمة ذكرها لو حدث مكروه في بلادهم. أوباما الذي يصفه المحللون الأمريكيون في الوقت الحالي بأنه شخص كلامنجي أي لا يجيد سوى الكلام ويبتعد عن الأفعال تماما، التقى الرئيس الفرنسي كما ذكرنا وتحدثا طويلا عن توافق رؤيتهما بشأن محاربة داعش، ولكن ماذا فعل ليضع الكلام محل الفعل.. لا شيء. هذا الكلام ليس من عندنا، فنحن تحدثنا مرارا عن هذا الأوباما الوهم الذي خدعنا عربا ومسلمين عندما جاء الى جامعة القاهرة في قلب العاصمة المصرية ليخاطب الشعب العربي من هناك بأنه المنقذ للبشرية جمعاء لنكتشف بعد أيام قليلة من خطابه أنه مجرد حالم وسيفيق حالاً من حلمه أو وهمه. على الأقل نحن العرب فقنا واستيقظنا مبكرا لنقف على حقيقته، فهو مجرد سراب. نعود الى الرئيس الأمريكي الذي تعهد لهولاند بالعمل معاً ضد داعش، فهو لم يفعل شيئا ولن يفعل. فهو اكتفى بالذكريات، حيث ذكر الرئيس الفرنسي بقيام الولايات المتحدة ودول التحالف بشن 8 آلاف ضربة جوية ضد معاقل داعش وقتل عددا كبيرا من قياديي التنظيم٬ واستعادة أراض كانت واقعة تحت سيطرة التنظيم الإرهابي وتجفيف منابع تمويل التنظيم ومواجهة رسائله وأفكاره وأيديولوجياته. وقال أوباما: سنستمر في القيام بكل ما يلزم وسنعيد هيكلة الاستراتيجية إذا لزم الأمر. في واقع الأمر، أوباما لم يفعل شيئا رغم تعهده لهولاند ببذل الجهود وتعزيز التعاون الاستخباراتي وتقديم المساندة لفرنسا باعتبارها دولة حليفة وتعزيز التعاون العسكري والأمني مع فرنسا ودول التحالف لمكافحة داعش. وفي واقع الأمر أيضا، لم يضع أوباما أية تغييرات في استراتيجيته لملاحقة وهزيمة التنظيم الإرهابي٬ وأصر على الاستمرار في استراتيجيته رغم الانتقادات التي وجهها الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء وخبراء عسكريون ومسؤولون سابقون ومرشحون جمهوريون في سباق الرئاسة الأمريكية. وهنا تصاعدت نبرة الانتقادات اللاذعة من صقور الأمن القومي في الكونجرس الأمريكي الذين طالبوا باستراتيجية فعالة لتحقيق الفوز في المعركة ضد داعش. وهنا أتذكر جلسة الأصدقاء التي حكيت عنها في بداية الموضوع، فكلنا اتفقنا على أن الولايات المتحدة كان بإمكانها القضاء على داعش عند بدايته وقبل أن يستفحل ويصبح بهذه القوة الإرهابية، فالتنظيم الذي امتد من العراق الى سوريا، تركته القوات الأمريكية بطيرانها ومخابراتها لينقل قياداته وأسلحته بين الحدود وكان يفترض أن تجهز عليه لتجهضه تماما وتوئد قوته قبل أن تتضخم ولكنها لم تفعل. والسؤال هنا لماذا لم تفعل أمريكا ذلك فترة نشوء قوة داعش؟ الإجابة بسيطة للغاية، فهي كانت ترغب جعل منطقتنا بمثابة ميدان رماية لحروب العالم، لتصبح أرضا لكل أسلحة العالم، فخدعت أمريكا دول الاتحاد الأوروبي لتضمهم إليها في تحالف دولي يقتصر دوره على المجال الجوي فقط في حين أن تنظيم داعش يتمدد برا ولكي توقفه يجب أن يكون هناك المكون البري، أي الجيوش المستعدة لذلك. نعم، لقد تركت الولايات المتحدة داعش يتمدد وينمو ويستفحل ويتضخم هنا وهناك، ليوسع دائرة عملياته الإرهابية في شتى بلدان المعمورة وتمتد أذرعه الى أوروبا وروسيا ودول إفريقيا، وكانت النتيجة أن طنشت الولايات المتحدة عن التدخل الجوي الروسي في الحرب الدائرة في سوريا ولم تنفعل فعليا إزاء التدخل الروسي الذي اعتبره الجميع بداية غير طيبة لسوريا حيث ان موسكو تعد من القوى العالمية الداعمة لبقاء الرئيس السوري بشار الأسد، وبعد فترة تعرضت طائرة ركاب روسية لعملية إرهابية في الأراضي المصرية لتنذر روسيا التنظيم بتوسيع ضرباتها ضده وامداد الجيش السوري بقوات برية روسية. وهكذا قرر أيضا الرئيس الفرنسي بعد تفجيرات باريس، ومن قبل كانت تركيا على موعد مع محاربة داعش بكل قوتها وأسلحتها، ليتطور الأمر بما ينذر بحرب عالمية جديدة، في أعقاب إسقاط الدفاع الجوي التركي قاذفة روسية سواء بطريق الخطأ أو الصواب، ورأينا الحرب الكلامية المستعرة بين الطرفين والتي انقلبت لاحقا إلى حرب اقتصادية واجراءات متبادلة بين الدولتين قبل التوجه نحو حرب حقيقية. كل ما سبق يقودنا إلى القول بأن الولايات المتحدة تركت الكل يتخبط في حروب المنطقة، وجعلت منهم جميعا مثل القول الشائع فخار يكسر بعضه، فواشنطن تركت المجال لروسيا لتقتحمه لا لتقتنص منه جزءًا أو أرضًا أو لحماية بشار الأسد كما تعتقد موسكو، وإنما لأن واشنطن على يقين بأن دخول روسيا بجيشها وسلاحها الى مستنقع الشرق الأوسط لأمر كفيل بإنهاكها واستضعافها فيما بعد، فلا روسيا بعسكرها واقتصادها قادرة على مواصلة مثل هذه الحروب المكلفة. والأمر نفسه ينطبق على الدول الأوروبية، فالولايات المتحدة تركت إرهاب داعش يصل لعواصمها لينفعل قادتها وينغمسون أكثر وأكثر في حروب برية في ميدان الرماية بالشرق الأوسط ليتم إنهاكهم في هذا المستنقع البغيض الذي سيتركهم دولا من الدرجة العاشرة، وهذا ما تبتغيه امريكا. فقد أوعزت للجميع بالدخول الى ميدان الحرب لتقف هي متفرجة من بعيد ولتظل قوتها في مأمن عن مستقنع المنطقة التي جربته في السابق، في العراق وأفغانستان، ولم تنل منهما سوى الهزيمة وقلة القيمة، فأمريكا الآن يبدو أنها تعلمت الدرس ولكن متأخرا، وتريد أن تلقنه لروسيا وأوروبا لينالوا نصيبهم من الهزيمة وتردي الاقتصاد، لتصبح هي سيدة الكون بلا منافس. كاتب ومحلل سياسي بحريني
مشاركة :