ارتحل الكاتب المصري نعمان عاشور إلى آفاق إبداعية مغايرة، وحلَّق بعيدًا عن الاقتباس والتغريب، ويعد من أبرز فرسان التأليف المسرحي في حقبة الستينيات من القرن الماضي، ورائد الدراما الواقعية، وعبَّرت أعماله عن قضايا المجتمع المصري، وتحوَّلت إلى عروضٍ مسرحية لأجيال من المخرجين، وامتد عطاؤه المتفرد لأكثر من 30 عامًا، وحتى رحيله في 5 أبريل 1987. تعلّق نعمان عاشور بالفن والثقافة في وقتٍ مبكر، وأتاح له الحظ أنّ جَده يمتلك مكتبة ضخمة تضم العديد من المؤلفات في شتى أنواع المعرفة، واكتسب عشقه للمسرح من والده، وكان يذهب معه إلى مسارح عماد الدين، وهناك شاهد مسرحيات نجيب الريحاني وعلي الكسَّار وفاطمة رشدي، وعزيز عيد، وبهره هذا العالم السحري، حتى أصبح لاحقًا من أعمدة الإبداع المسرحي. وخلال دراسته الثانوية شارك مع فرقة التمثيل في بعض العروض المسرحية، وتعمَّقت ميوله الفنية بعد التحاقه بكلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية بجامعة القاهرة، وتعرّف على أعمال كُتَّاب المسرح العالمي، مثل وليم شكسبير وهنريك أبسن وبرنارد شو وأنطون تشيكوف وغيرهم، وبعد تخرجه عام 1942، اتصل بالحركة الأدبية الصاعدة بمصر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكان في طليعة النهضة الثقافية، ووقتها ظهر جيلٌ من الأدباء وكتاب المسرح يبحث عن هويته الإبداعية، ويرفض الانغماس في الاقتباس والتغريب. شعلة الريادة وفي ذلك الوقت، حمل شعلة الريادة مجموعة من المفكرين والكتاب والفنانين ومهّد هؤلاء الطريق أمام نعمان عاشور وجيله، فقد سبقه الكاتب محمد تيمور إلى الكتابة الواقعية في المسرح، وقدَّم علي أحمد باكثير مسرحياته المستلهمة من التاريخ، وتوفيق الحكيم بدوره المؤسس لمسرح مصري خالص، ونجيب الريحاني بأعماله ذات الطابع الاجتماعي الساخر، وكذلك من خلال الشعراء أمثال خليل مطران مترجم “ماكبث” لشكسبير، وعزيز أباظة ومسرحيته “العباسة” التي عرضت على المسرح القومي، ومسرحيات يوسف وهبي وعزيز عيد التراجيدية. وانفتح عاشور على تيارات المسرح العالمي، وتوقف عند مسرحيات الكاتب النرويجي هنريك أبسن بطابعها الواقعي، لا سيّما رائعته “بيت الدُمية”، واستفاد من سرديتها الحوارية، وتغلغلها في أعماق الشخصيات، وإبراز الجانب الإيجابي برفض الزوجة أشكال القهر والتسلط من المحيطين بها، وظهر ذلك في أعمال عاشور التي تناولت الفئات المهمشة في المجتمع المصري. وكانت أعمال عاشور بمثابة الشرارة الأولى للتحديث في المسرح المصري، وظهور جيل من المبدعين الطامحين إلى التعبير عن قضايا المجتمع بجماليات ورؤى نابعة من خصوصية الواقع العربي، ومنهم الكتاب سعد الدين وهبة، ورشاد رشدي، ويوسف إدريس، ومن المخرجين كرم مطاوع، وسعد أردش، وعبدالرحيم الزرقاني وكمال ياسين، ومن الفنانين عبدالله غيث، وسميحة أيوب، ومحسنة توفيق، وشفيق نور الدين. وتفاعل الكاتب المبدع مع الشارع المصري، واستقى خبراته من واقع مشاهداته اليومية، وكان يلتقي مرة كل أسبوع أصدقاءه وزملاءه الكُتَّاب والنقاد في مقهي “سوق الحميدية” بالقاهرة، وخلال عقدي الستينيات والسبعينيات، كانت القاهرة تموج بالأنشطة الثقافية، وشارك عاشور في العديد من تجمعات المثقفين، وباتت مسرحياته وثيقة الصلة بالحراك الاجتماعي، ومُعبِّرةً عن أعماق النفس البشرية. الجيل الطالع بدأ عاشور رحلته مع الكتابة في منتصف الخمسينيات، وقدَّم خلال مسيرته نحو 16 مسرحية، منها “المغماطيس”، و”الناس اللي تحت”، و”الناس اللي فوق”، و”حملة تفوت ولا حد يموت”، و”صنف الحريم”، و”عيلة الدوغري”، و”وابور الطحين”، و”سر الكون”، و”الجيل الطالع”، و”برج المدابغ، و”بلاد برة”، و”بحلم يا مصر”، و”لعبة الزمن”. وفي عام 1984 كتب آخر أعماله “إثر حادث أليم”. وكتب عاشور القصة القصيرة في مراحل متفاوتة، وصدرت له أول مجموعة “حواديت عم فرح” عام 1954، و”فوانيس” (1957)، و”سباق مع الصاروخ” (1964)، و”بطولات مصرية” (1971)، وتناغم إنتاجه القصصي مع اتجاهه الواقعي في نصوصه المسرحية.وجاءت تجربته المسرحية مواكبة للتغيُّرات الجذرية التي شهدها الواقع المصري بعد ثورة 23 يوليو 1952، ورسم بمهارة فائقه ملامح الشخصية المصرية، وبدا مساره المسرحي موازيًا للإبداع الروائي عند نجيب محفوظ، وإذا كان القارئ العربي يعرف جيدًا شخصيات “أحمد عبدالجواد” في الثلاثية، و”عاشور الناجي” في “الحرافيش”، فإن عشّاق المسرح استبقت ذاكرتهم “علي الطواف” في “عيلة الدوغري”، و”عطوة أفندي” في “المغماطيس”، وغيرها من الشخوص المُعبِّرة عن فئات المجتمع المصري. صِدام رقابي كتب نعمان عاشور مسرحيته “المغماطيس” عام 1955، وتدور حول “عطوة أفندي” الموظف في محل “المَعلم رضا” المتهرب من الضرائب والذي يتحايل للاستيلاء على ميراث شقيقه محمود، وعلى جانب آخر يتصارع محمود وأخوه وآخرون على الزواج من “قمر”، ويعود شقيقها “الدكتور غريب” من الخارج، ويفتح عيادة للعلاج النفسي ويعمل معه عطوة، وتتابع الأحداث. وتعثرت “المغماطيس” في طريقها إلى خشبة المسرح، ومُنِعَت من العرض لنحو عشر سنوات، بسبب اعتراض الرقابة على فكرتها الرمزية، وانتقادها فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر، وبعد سنوات أخرجها الفنان سعد أردش، وشارك في بطولتها عبدالمنعم إبراهيم ومشيرة إسماعيل ومحيي إسماعيل ومحمد رضا وفايق عزب وفاروق نجيب وليلى فهمي. الناس اللي تحت وتتابعت أعمال عاشور، ودفع بمسرحيته “الناس اللي تحت” عام 1957، وأشاد بها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وعددٌ من النقاد، وقُدِمت على خشبة المسرح، وشارك في بطولتها سعد أردش وعبدالمنعم مدبولي وصلاح منصور وتوفيق الدقن وناهد سمير، وأخرجها كمال ياسين. وتتناول “الناس اللي تحت” حياة مجموعة من الفقراء يسكنون في “بدروم”، وتتباين شخصياتهم، فهناك الكمساري وابنته والشاب الفنان الذي يستأجر حجرة في البدروم في مستهل حياته، والثري العجوز الذي خسِر ثروته، وتطمع صاحبة المنزل الثرية العجوز في الزواج منه، بينما يخطط شقيقها العاطل للاستيلاء على ثروتها. ووصف النقاد مسرحية “الناس اللي تحت” بأنها لحظة فارقة، وشهادة ميلاد لمسرح مصري خالص بعد أن عاش لسنوات طويلة على الاقتباس من دون التماس مع الواقع الاجتماعي، وكانت أول نص مسرحي يناقش بجرأة مشكلات الطبقتين الوسطى والفقيرة، بِلغةٍ تحمل قدرًا كبيرًا من السخرية والكوميديا اللاذعة. وغادر عاشور “البدروم” ليكتب مسرحيته التالية “الناس اللي فوق”، ويرصد خلالها التغيُّرات التي طرأت على طبقة الأثرياء بعد ثورة يوليو 1952، وعُرضت على خشبة المسرح القومي، وقام بالبطولة سناء جميل وحسين رياض وإحسان شريف ونور الدمرداش وفؤاد شفيق ونعيمة وصفي، وإخراج سعيد أبوبكر. بلاد برة واتجه الكاتب الكبير إلى الكوميديا ذات الطابع النقدي الساخر، وتمثل ذلك في مسرحيته “بلاد برة” التي كشفت قدرته على الإمساك بخيوط شخصيات كثيرة، وسبر أغوارها، وتناول خلالها التحولات التي طرأت على المجتمع المصري بعد ثورة يوليو، وعُرضت المسرحية عام 1967، بطولة شفيق نور الدين وقسمت شيرين وأحمد الجزيري وملك الجمل وعادل المهيلمي، وإخراج عبدالرحيم الزرقاني. وتتناول “بلاد برة” الصراع بين عائلتين، الأولى تضم أحد الباشوات وابنته وابن شقيقه، والثانية عائلة رئيس عُمَّال وزوجته وابنه “علي” الذي تخرج في كلية الهندسة بعد مجانية التعليم، ويموت الباشا ويتولى “نادر بك” إدارة أملاك عمه، ويطمع في الاستيلاء على نصيب “زهيرة” من شركة السياحة، وتعود زهيرة من الخارج بعد 18 عامًا، وتُفاجأ بتأميم الشركة. يوسف وهبي يطالب بمنع «سيما أونطة» اصطدمت بعض أعمال الكاتب نعمان عاشور بالرقابة، ومنها مسرحيته الكوميدية “سيما أونطة”، وأثارت ضجة كبيرة عندما عُرضت على خشبة المسرح 1958، وفي ذلك الوقت لاقت معارضة شديدة من بعض نجوم السينما، وطالب الفنان يوسف وهبي بمنعها، ولكنها لاقت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا. وتتناول المسرحية على مدى ثلاثة فصول عالم الإنتاج السينمائي سريع الحركة والتطور في الخمسينيات والصعوبة التي يجدها أصحاب الموهبة في الظهور على الشاشة، وبحث بعض المنتجين عن الربح على حساب الكيف. وتعد “سيما أونطة” من أعمال عاشور التي تجاوزت سياقها الزمني، بتناولها سلبيات العمل السينمائي، وتنبأ خلالها بظهور “أفلام المقاولات” في حقبة السبعينيات، وظهور فئة من المنتجين لا علاقة لهم بالفن، وعُرضت أول مرة في المسرح القومي بطولة برلنتي عبدالحميد وتوفيق الدقن وجسّد الأخير شخصية “الشيَّال” الذي تحوَّل إلى مليونير ثم إلى منتج سينمائي، ولا تزال هذه المسرحية تغري الكثير من المخرجين بتقديمها على خشبة المسرح، وفي عام 2017 عُرضت من خلال مسرح الجامعة الأميركية في القاهرة، وشارك في بطولتها مجموعة من الفنانين الشباب، وأخرجها وليد حمّاد. عيلة الدوغري وقد أحدثت أعمال عاشور حراكًا مسرحيًا غير مسبوق، وذهب النقاد إلى أن أهم سمات نصوصه المحاكاة والمعايشة الكاملة لتفاصيل شخوصه المتباينة، وأنه يضع يده مباشرة على واقع ندركه ونلمسه، غير أننا لا نملك تفسيره، فلا مجال في مسرح نعمان لتيارات العبث واللامعقول، وبنيته المسرح تندرج تحت “الكلاسيكية الحديثة” وتخلصها من الخطاب المباشر والميلودرامية، وفي ذات الوقت تستقطب ذائقة المتفرج المثقف والبسيط، ويجد صورة فنية مشابهة لواقعه الخاص. ويتضح هذا الثراء الدرامي في مسرحيته “عيلة الدوغري”، التي تعد من أنجح أعماله على المستوى الجماهيري، وقدمت كعرض مسرحي ودراما تلفزيونية، وتبدأ أحداثها برحيل “الدوغرى الأب” تاركًا خمسة أبناء (ثلاثة رجال وامرأتان) ويعمل الابن الأكبر (سيد) ولكنه يبدّد مكاسبه، وبعد فترة كسدت مهننه، بينما لدى شقيقه الأوسط (كمال) تطلعات خارج دائرة الأسرة، ويترك زوجته لاستكمال دراسته في الخارج، والشقيق الأصغر (حسن) لاعب كرة مشهور، ولا يهتم إلا نفسه، وتتابع الأحداث. وعُرضت “عيلة الدوغري” على خشبة المسرح عام 1963، وشارك في بطولتها توفيق الدقن وعبدالمنعم إبراهيم ورجاء حسين وعبدالرحمن أبوزهرة وشفيق نور الدين، وإخراج عبدالرحيم الزرقاني. وأعيد تقديم المسرحية بالعنوان ذاته، من خلال مسلسل تلفزيوني عام 1980، وقدم السيناريست محسن زايد معالجة درامية للنص الأصلي، وحافظ على البنية الرئيسة لشخصيات “عيلة الدوغري” وأخرجها يوسف مرزوق بأبطالٍ جُدد منهم يوسف شعبان وعماد حمدي ومعالي زايد ومديحة حمدي، واستعان فقط باثنين من أبطال العرض المسرحي، وهما أحمد الجزيري في دور “الموظف زوج ابنة الدوغري”، وشفيق نور الدين في شخصية موزع الخبز العجوز “علي الطواف” الذي أمضى حياته من دون أن يرتدي حذاءً، وارتبط منذ زمن طويل بعائلة الدوغري، ويعادل شخصية “ترزياس” في التراجيديا الإغريقية، الراوي والمعلِّق على الأحداث. وابور الطحين وكتب عاشور مسرحيته الكوميدية الساخرة “وابور الطحين”، وتدور في أجواء الريف المصري قبل ثورة يوليو 52، حول مجموعة من المزارعين يحاولون استرداد ملكية الطاحونة من الإقطاعيين، وعُرضت على خشبة المسرح عام 1966، وشارك في بطولتها ماجدة الخطيب وسميرة محسن وعبدالغني قمر وحسين الشربيني وعبدالحفيظ التطاوي وعبدالعزيز أبو الليل، وإخراج نجيب سرور. واتجه عاشور في مسرحية “وبحلم يا مصر” إلى استلهام التاريخ، وتناول خلالها رحلة رفاعة الطهطاوي رائد التنوير، ووجد النص طريقه إلى خشبة المسرح في عروض مختلفة، آخرها في عام 2017، ضمن الاحتفالات بافتتاح المسرح القومي بعد تعرضه لحريق، وشارك في البطولة علي الحجار ومروة ناجي وحسن العدل، وظهر بها بعض النجوم كضيوف شرف، منهم محمود ياسين وأشرف عبدالغفور ومحمد وفيق ونبيل الحلفاوي. المسرح حياتي امتدت مسيرة عاشور لنحو ثلاثة عقود، أثرى خلالها المسرح المصري بنصوصه المتفردة، ونشر أعماله في طبعات عدة، ومنها كتابه القيّم “المسرح حياتي”، وتناول تجربته الطويلة مع التأليف المسرحي، ويعد إضافة مهمة للمكتبة الثقافية العربية، لتتعرف الأجيال على إنجاز عاشور وجيله من الكتاب والمخرجين، ودورهم في الارتقاء بالمسرح، والتأثير في وجدان ووعي المتفرج، وتشكيل ذائقة مغايرة، ووثيقة الصلة بالقضايا الاجتماعية، وفي الوقت ذاته مفعمة بالشاعرية والرهافة. وبقيت لدى نعمان عاشور قناعة بأن الكوميديا أفضل الطرق لعكس الواقع خاصةً عندما يكون مؤلمًا، ومكّنه ذلك من الغوص في قاع الحياة المصرية بعلاقاتها وتفاصيلها العميقة، وصاغ أعماله برؤية مستقبلية، لتبقى طويلا في ذاكرة القارئ والمتفرج، ولا ينطفئ توهجها بمرور الزمن.
مشاركة :