فرسان المسرح العربي: يوسف إدريس... مفكر الأدب المسرحي

  • 4/27/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

حقَّق الكاتب المصري يوسف إدريس شهرته في القصة القصيرة والرواية، ويعد من أبرز فرسان الكتابة المسرحية منذ ستينيات القرن الماضي، وأحد مفكري الأدب المسرحي، وله إسهامات تنظيرية مهمة، منها كتاب «نحو مسرح عربي»، وعُرضت مؤلفاته على خشبة المسرح المصري، وأثنى عليها الجمهور والنقّاد، واستمرت مسيرته الإبداعية حتى رحيله في مطلع أغسطس عام 1991. تعلّق يوسف إدريس بالمسرح في وقت مبكر، وانضم لفريق المسرح حين كان طالبًا في المرحلة الثانوية، وفي تلك الفترة فكّر في احتراف التمثيل والإخراج، ولكنه عثر على موهبته الحقيقية في الإبداع الأدبي، ونشر أولى كتاباته القصصية في المجلات الثقافية أثناء دراسته الطب في جامعة القاهرة. وتوفرت لهذا الكاتب المبدع ثقافة عميقة في شتى مجالات المعرفة، وانخرط في أنشطة أدبية مختلفة، ويتضح في نصوصه المسرحية، أنه يقوم بدور المؤلف والمخرج معًا، ويضمن رؤيته أبعاد كل شخصية، بل طبيعة حركتها فوق خشبة المسرح، وكان يحرص على حضور البروفات، ما تسبب في خلافات كثيرة مع مخرجين بحجم كرم مطاوع وسعد أردش وغيرهما، فضلا عن اصطدام بعض أعماله بالرقابة. وكانت لديه طموحات إبداعية هائلة، وتنوعت اهتماماته بين الأدب والمسرح والنقد والمقال الصحافي، وتحوَّل معظم رواياته وقصصه إلى أفلام ودراما تلفزيونية، ورغم ندرة كتاباته المسرحية (ثماني مسرحيات فقط)، فإنه أصبح من أهم المؤلفين المصريين في هذا المجال، وسبح ضد تيار المسرح التقليدي، وعمد إلى إشراك الجمهور في العرض المسرحي، ومن أبرز أعماله «الفرافير» و«المهزلة الأرضية» و«المخططين» وغيرها. ملك القطن وقد ذاعت شهرته بعد صدور مجموعته القصصية الأولى «أرخص ليالي» (1954)، ودفع بمسرحيتين في كتاب واحد عام 1957، الأولى «ملك القطن»، وتدور حول الخِلاف بين المزارع البسيط «قمحاوي» ومالك الأرض «السنباطي» حول تحديد قيمة المحصول، وفي كل عام يتجدّد النزاع، كأنهما يدوران في حلقة مفرغة، وفي الثانية يتناول حكاية «الصول فرحات» الذي يتلقى شكاوى الناس يوميًا، ويصنفها بين جُناة ومجني عليهم، ويدخل في حوار مع ذاته، وكيف سارت أمور حياته خلال ثلاثين عامًا من عمله في الشرطة. وتأثرت المسرحيتان بنزعة إدريس إلى الكتابة الواقعية، وطغى السرد القصصي لأبعاد الشخصيات على حوارية النص المسرحي، من دون فض الاشتباك بين خصائص الكتابة القصصية والمسرحية، وتناول خلالهما قضايا مواكبة للتحولات التي طرأت على المجتمع المصري بعد ثورة يوليو 1952. الواقعية الرمزية وانضم إدريس إلى الجيل الذهبي من كُتَّاب المسرح المصري، منهم نعمان عاشور وعبدالرحمن الشرقاوي وألفريد فرج ولطفي الخولي وسعدالدين وهبة، وأصدَّر في عام 1958 مسرحية «اللحظة الحرجة» التي اصطدمت مع الرقابة في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وظلت ممنوعة من العرض سنوات طويلة، حتى عُرِضَت بعد رحيله في منتصف التسعينيات بمسرح محمد فريد في القاهرة، وأجريت عليها بعض التعديلات التي أخلّت بالنص الأصلي. ولجأ إدريس في «اللحظة الحرجة» إلى الواقعية الرمزية، وتدور أحداثها حول قصة أب «الحاج نصَّار» بدأ حياته نجارًا متجولًا، واستطاع بفضل اجتهاده أن يؤسس ورشة يقوم بإدارتها، وبعد تقدمه في العمر، حلَّ محلَّه ابنه الأكبر «مُسعَد»، بينما واصل ابنه الثاني «سعد» تعليمه الجامعي، وابنته على وشك الزواج، ويَعْتَبِر الأب هؤلاء الأولاد مع الورشة ثروته الحقيقية، ويَحْرِص عليها حرصًا شديدًا، ولا يقبل أن يعرضهم لأي خطر. اصطدامه بمخرج «الجنس الثالث» اعتاد إدريس، أن يشاهد بروفات مسرحياته، قبل عرضها على الجمهور، وكان يصر على التزام المخرج بنص المسرحية، ويراقب أداء الممثلين، ويقدِّم إشارات وافية لرسم الشخصيات والديكور وعناصر العمل المسرحي، وأدى ذلك إلى صدامات متكررة في كواليس المسرح، أفضت أحيانًا إلى توقف العمل، سواء بموانع رقابية أو لاختلاف وجهات النظر في تناول مسرحياته. ومن تلك المواقف، صدامه في عام 1972 مع المخرج سعد أردش أثناء التحضير لعرض مسرحية «الجنس الثالث»، إذ رأى إدريس أن أسلوب أردش في التفاعل مع الجمهور (كسر الإيهام) يحول دون إطلاق خيال المتفرج، وتثبيت كل من «الممثلين والجمهور» في إطار ثابت طوال العرض، وبعد أن هدأت عاصفة إدريس، توصل مع المخرج إلى رؤية مشتركة، وجرى عرض المسرحية، وشارك في بطولتها الفنان عبدالرحمن أبوزهرة. السيد والفرفور وتعد مسرحية «الفرافير» من أبرز أعمال إدريس، وتمرد خلالها على النسق الكلاسيكي في السرد الواقعي، وتعد أول مسرحية عربية تحطم الجدار الرابع بين خشبة المسرح وقاعة العرض، وإشراك الجمهور في الحدث الدرامي، وكان هذا النص أوفر حظًا، حين تحمس الفنان كرم مطاوع لإخراجه، وعرض على المسرح القومي عام 1964، وحقق نجاحًا كبيرًا، وشارك في بطولته كوكبة من النجوم منهم توفيق الدقن وعبدالسلام محمد وسهير البابلي وعبدالرحمن أبوزهرة وعادل هاشم، وناهد سمير وأحمد الجزيري. تدور أحداث المسرحية حول الصراع بين «السيد»، وقام بدوره الفنان توفيق الدقن، و«الفرفور» الفنان عبدالسلام محمد، وأنه لا بُد من وجود الاثنين لتنتظم أمور الحياة، ولكن المشكلة مَنْ يكون السيد ومَنْ يكون الفرفور. وشهدت «الفرافير» ذروة النضج في كتابات إدريس للمسرح، وتخلصه من ظلال السرد القصصي، واعتماد بنية درامية غير مسبوقة في المسرح المصري، وإن كانت متأثرة بنظرية الكاتب الألماني برتولد بريخت حول «كسر الإيهام» وعدم اندماج الممثل وخروجه من الشخصية ليخاطب الجمهور، ما يجعل الأخير شريكًا فاعلًا في العرض المسرحي. وفتحت «الفرافير» أبواب التجريب في المسرح المصري، سواء بتقديم أعمال لكتاب اللامعقول مثل الفرنسي يوجين يونسكو والأيرلندي صمويل بيكيت، أو شروع كتاب مصريين في ارتياد فضاء مسرحي مغاير لتجاربهم السابقة، منهم الكاتب الرائد توفيق الحكيم ومسرحياته «يا طالع الشجرة» و«بنك القلق» و«طعام لكل فم»، وأنشأت وزارة الثقافة المصرية في الستينيات مسارح خاصة لتلك الأعمال، مثل «مسرح الجيب» و«المسرح الحديث»، ولاحقًا «مسرح الطليعة”. خيال الظل وأصدر إدريس مسرحية «المهزلة الأرضية» ضمن سلسلة «مجلة المسرح» 1966، وعرضت في نفس العام على خشبة المسرح القومي، وشارك في بطولتها عبدالرحمن أبوزهرة ومحمد السبع وأخرجها جلال الشرقاوي، وفي عام 1970 أخرجها أحمد زكي (المخرج ومدير مسرح الطليعة الأسبق)، وبطولة محمود الجندي وعبدالله إسماعيل وأحمد عقل. وعادت المسرحية إلى خشبة المسرح عام 1983 بعنوان «المهزلة» إخراج شاكر عبداللطيف وبطولة محمد عوض ومعالي زايد وسعيد عبدالغني ونجاح الموجي. وتدور أحداثها حول فكرة الصراع المادي والجشع من خلال حكاية ثلاثة أشقاء «عباس اﻷول وعباس الثاني وعباس الثالث»، ويتهم عباس اﻷول شقيقه عباس الثالث بالجنون، للاستيلاء على ميراثه، وبظهور عباس الثاني ترتبك خطط عباس اﻷول. ودعمت «المهزلة الأرضية» فكرة إدريس عن تأصيل المسرح العربي، واستدعاء كافة أشكال الفنون التراثية في النص المسرحي، مثل السامر وخيال الظل والأراجوز، وتناغمها مع أحدث التيارات المسرحية، ومنها مسرح اللامعقول، وتجسّد في قناعته أن بعض تفاصيل الواقع المعيش تبدو في عدم منطقيتها أكثر مما هي في خيال المؤلف. الأبيض والأسود ونشر إدريس مسرحيته «المخططين» عام 1969، وعُرضت في العام التالي على خشبة المسرح، بطولة أحمد ماهر ومحمود الجندي وإخراج أحمد زكي، ودارت حول فكرة رمزية حول خمسة أشقاء يرتدون ملابس مخططة باللون الأبيض والأسود، ولكل منهم عالمه الخاص، ويحاول الشقيق الأكبر تصحيح مسار العائلة، وتتوالي الأحداث عبر مفارقات كوميدية. ودفع بمسرحيته التالية «الجنس الثالث» التي جرى عرضها في عام 1971، إخراج سعد أردش، وبطولة عبدالرحمن أبوزهرة، وتدور في عالم افتراضي بلا زمان أو مكان محددين، حول الصراعات والحروب التي تهدد الجنس البشري بالفناء، وتصدي العالِم الطموح «الدكتور آدم» لمهمة إنقاذ البشر. التنظير المسرحي انشغل إدريس بالتنظير المسرحي بعد عرض «الفرافير»، ونشر منذ بداية عام 1964 ثلاث دراسات بعنوان «نحو مسرح مصري» في مجلة «الكاتب» المصرية، وتناول خلالها اعتماد المسرح المصري على الاقتباس من نظيره الغربي، بينما هناك دول كالصين واليابان لها تجارب حملت خصوصية تراثها من الفنون التعبيرية، ودعا إلى ضرورة وضع خصائص تميزه، وأثار هذا الطرح ردود فعل مختلفة. ودعا الكاتب الكبير إلى ضرورة اشتراك الجمهور في عملية «التمسرح»، وبذلك يكون عنصرًا فاعلًا في العرض المسرحي، وإدخال عناصر وأشكال من التراث الشعبي، كادت تندثر مثل العروض الارتجالية والراوي عازف الربابة وغيرها، وينبغي الاستفادة منها وتوظيفها في النسيج الدرامي للنص المسرحي. وأراد إدريس من خلال «الفرافير» أن تكون تطبيقًا لأفكاره حول خصوصية المسرح العربي، والتوجه المباشر للمتفرج في بداية المسرحية، كما يحدث في العروض الارتجالية التي ظهرت من خلال الفرق الجوالة في القرن التاسع عشر، واستمرت حتى الأربعينيات من القرن الماضي، واختفت تمامًا مع اهتمام الدولة المصرية بفن المسرح، وظهور عدد كبير من فرق القطاعين العام والخاص. وكان يرى أن هناك مسرحًا عربيًا موجودًا في حياتنا، لكننا لا نراه، لأننا نريد أن نراه مشابهًا ومماثلًا للمسرح الأوروبي، الذي عرفناه وترجمناه واقتبسناه وعرّبناه ونسجنا على منواله منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف الستينيات، وأنه حان الوقت لرد الاعتبار إلى فنوننا التراثية الأصيلة. وفي عام 1974، أراد إدريس أن يوثّق دراساته التنظيرية، ونشر كتابه «نحو مسرح عربي» كأول كاتب مسرحي يهتم ببلورة أفكاره حول دور المسرح، ورغم ريادة توفيق الحكيم في المسرح الذهني، فإن دراسته «قالبنا المسرحي» التي كتبها عام 1967، جاءت تالية للدراسات الثلاث ليوسف إدريس، والتي تتابعت أصداؤها في أرجاء المسارح العربية، وتجسّدت في اهتمام المسرحيين بإحياء تراث الفنون الشعبية، ومنها مسرح «الحكواتي» في فلسطين، ومثيله في لبنان من خلال تجارب المخرج روجيه عسّاف وغيرها. الأديب الراحل في سطور • ولد في محافظة الشرقية (شمال شرقي القاهرة) عام 1927. • حصل على بكالوريوس الطب عام 1947. • تخصص في الطب النفسي عام 1951. • عمل طبيباً فترة، ثم كاتبًا صحافيًا في جريدة «الجمهورية» (1960 ـ 1973). • عمل كاتباً في جريدة «الأهرام» (1973 – 1982). • كان عضواً في نادي القصة، وجمعية الأدباء، واتحاد الكتاب، ونادي القلم الدولي. • أصدر العديد من المؤلفات في القصة والرواية والمسرح. • تُرجمت أعماله إلى لغات عِدة حول العالم. • نال العديد من الجوائز والتكريمات، منها: وسام الفنون من الجزائر عام 1961، ووسام الفنون من مصر عامي 1963 و1967، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1980. مهرج السيرك واتجه إدريس إلى المسرح الذهني من خلال مسرحيته الكوميدية «البهلوان» (1983)، وحققت انتشارًا كبيرًا، وترجمت إلى لغات عدة، وبعد خمسة أعوام عُرِضت على خشبة المسرح، وشارك في البطولة يحيى الفخراني وسحر رامي ورانيا فتح الله وصلاح رشوان وحسن العدل وسعيد صالح، وإخراج عادل هاشم. ودارت أحداث المسرحية في سيرك كبير يعقد مسابقة لاختيار بهلوان جديد، ويجتاز «زعرب» الاختبار بنجاح، ويقرّر ارتداء قناع يغطي ملامح وجهه، وسرد تفاصيل حياته بصدق من دون تزييف للحقيقة، وانتقد الشخصيات التي تملقها، ولا يستطيع مواجهتها في الواقع، وإلا فقد منصبه في إحدى المؤسسات، وبذلك وصل إلى مرحلة التوازن التي كان يبحث عنها وأرضى الجزء المضيء في نفسه... وتعرف زوجته الأمر وتذهب إلى السيرك، وتتوالى المفارقات الكوميدية. وتعد «البهلوان» آخر عمل لإدريس على خشبة المسرح، ووصل خلاله إلى ذروة إبداعه، ولجأ إلى حيلة سينمائية «الفلاش باك» في بناء خطين دراميين، الأول يحدث في الحاضر والآخر يستعيد الماضي والرجوع إلى الوراء أثناء تتابع الأحداث، وظهر الحس الكوميدي بصورة جلية في شخصية «مهرج السيرك» الذي قام بدوره الفنان يحيى الفخراني، واستطاع المخرج عادل هاشم، أن يوظف عناصر العرض المسرحي، وإدارة حركة الممثلين داخل ديكور السيرك، وأن يجعل الجمهور متفاعلًا مع الحدث الدرامي حتى نهاية المسرحية. ويبقى أن منجز يوسف إدريس الإبداعي، حقق حِراكًا في المسرح المصري منذ حقبة الستينيات، وكان يرى أن المسرح «أبوالفنون» وقمة الشكل الأدبي، وأفضل الألوان الأدبية التي عبَّر فيها عن أفكاره، وأن مَنْ جرّب متعة التعبير من خلال المسرح لا بُد أن يكون أسيرًا له. وقد رفض الفصل بين التراجيديا والكوميديا، ورأى أن هناك ضرورة للتناغم بينهما في نص مسرحي واحد، وأنه من الضروري في لحظة المأساة أن نجد ما يُضحك وفي لحظة الإضحاك الشديد نجد ما يُحزن، والكاتب يمكن أن يجد لنفسه مساحة واسعة بين الضحك والبكاء ليستطيع من خلالهما أن يوصّل ما يريد إلى القارئ أو المتفرج. وخلال رحلته مع الكتابة لأكثر من 40 عامًا، بات المسرح يسيطر على فكره تمامًا، حتى أثناء كتابته القصة القصيرة والرواية، ويظل يوسف إدريس من أهم الكُتَّاب العرب في القرن الماضي، ويتجدّد حضوره دائما بإسهامه في إثراء المكتبة العربية بإبداعه المتفرد.

مشاركة :