بعدما عُقدت آمالٌ كبيرة بمجرّد الإعلان الترويجي للمسلسل الأردني "المشراف"، بوصفه العمل الدرامي الأول الذي يقدّم معركة الكرامة 1968، بمجرد بدء عرض حلقاته مع شهر رمضان، تحوّل الرأي العام وموقف النخب السياسية والمثقفة إلى النقد الشديد للمستوى المتواضع الذي ظهر عليه العمل، ما أثار استياءً كبيراً، حتى علّق أحد السياسيين بالقول: "يبدو أنّنا قد انتصرنا في معركة الكرامة في الميدان، لكنّنا خسرناها فنياً وإعلامياً، بعد قرابة 54 عاماً"! للأسف، رغم الموارد المالية واللوجستية التي رُصدت لهذا المسلسل الذي كان من المفترض أن يكون مناسبة مهمة في بداية المئوية الجديدة لاستعادة المجد وتخصيب الذاكرة التاريخية وتعضيد رسالة الدولة، بدا كأنّه نموذج مناقض تماماً لذلك، فالكرامة التي طالما كان الأردنيون يفخرون بما قدّمه جيشهم فيها، والبطولات والتضحيات التي شهدت على الإنجاز الأردني، بعد أشهر قليلة على حرب الـ67، اختُطفت منهم مرة أخرى فنياً، بعدما اختُطفت سياسياً وتاريخياً، وهكذا كانت النتيجة معكوسة تماماً عما أرادته الحكومة، بل على النقيض من ذلك، أصبح المسلسل مصدر سُخطٍ آخر على مستوى التقصير والضعف في مختلف المجالات من الحكومات المتعاقبة. اتجه أغلب الأردنيين إلى المقارنة بين هذا العمل المتواضع (فنياً) والأعمال المصرية التي تُعرض في رمضان الحالي. وبعيداً عن الموقف السياسي والفكري من الرواية التي يقدّمها النظام المصري من خلال هذه الأعمال، فإنّ الملاحظ حجم الاهتمام السياسي الكبير بها، وحجم الدعمين، المالي واللوجستي اللذين قدّما لها لإنجاحها، كما هي الحال في سلسلة مسلسلي "الاختيار" و"العائدون". وفي رمضان العام الماضي، كان هنالك مسلسل "هجمة مرتدّة"، وقد فتحت خزائن المعلومات والأموال والدعم بأنواعه كافة لإنجاحه، لأنّ هناك إدراكاً من النظام المصري لأهمية الفن وقوته في تقديم الرسائل السياسية وتأطيرها، والقدرة على العبور إلى شرائح اجتماعية عريضة وبناء الهوية والرواية. وإذا تجاوزنا الدراما المصرية، فإنّ الدراما السورية لا تقلّ أهمية وقوة في دعم خطاب الحكومة ورسالتها وروايتها هناك، بالرغم من الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية القهرية، ولعلّ النموذج الأكثر وضوحاً هو التركي الذي استحوذ على اهتمام ملايين المشاهدين العرب والمسلمين، وأعاد إنتاج التاريخ التركي وترسيخ نموذج معين في الذاكرة الشعبية التركية والعربية والمسلمة، وتخليد شخصيات، مثل أرطغرل وألب أرسلان وغيرهما، ورسمها بالصورة الرمزية الأسطورية التي يريدها الأتراك تماماً! الأردن حالة محزنة جداً، فتواضع "المشراف" ليس أمراً طارئاً أو غريباً، بل متوقع وطبيعي ضمن الظروف البائسة التي يعمل فيها الفنانون الأردنيون، سواء على صعيد حجم الاهتمام الحكومي الشحيح والمعاناة المالية لأغلب الممثلين، وسواء على صعيد انعدام الدعم اللوجستي وعدم اكتراث الدولة عموماً بالثقافة والفن، بالإضافة إلى أنّ المسلسل لم يخضع لمراجعة ونقاش من متخصصين في المضمون التاريخي والرسائل السياسية المطلوبة منه، ما ظهر جلياً من خلال الإصرار على تصوير المجتمع الأردني في مرحلة الستينيات وكأنّه في مرحلة البداوة، والفجوات في البحث التاريخي وضعف السردية السياسية! بالضرورة، لا يمكن أن نحمّل الفنانين وكاتب النص مسؤولية هذا الإخفاق الشديد، لأنّ عملاً درامياً بهذا الحجم من الأهمية كان يتطلب الابتعاد عن منطق الفزعة والعجلة والاسترضاء والمجاملة في التقييم إلى أن يكون هنالك دراسة معمّقة له، فهو يدخل في صميم عملية بناء الذاكرة الوطنية، وهذه جزء من الهوية والثقافة الوطنية، وكان يفترض أن يدرس ويناقش مرّات عدة قبل أن يخرج بالطريق التي أحزنت ناساً كثيرين. يُؤمل الآن أن يستفيد الأردنيون مما حدث، وأن يكون هنالك تقييم موضوعي ونقدي من الحكومة لما حدث، لتجنّب مثل هذه الأخطاء الكارثية الفادحة في المرّات المقبلة، وللتفكير بصورة أكثر عمقاً في المستوى والرسالة والمحتوى المفترض أن تتأسّس عليه مثل هذه الأعمال الفنية. (العربي الجديد)
مشاركة :