سلة الأمل - نجوى هاشم

  • 12/10/2015
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

في العاصمة السلوفاكية (براتيسلافا) أقيم تمثال تخليدا لأحد عمال النظافة الذي أحب فتاة وهجرته بعد أن أخبرها عن عمله.. لم تكن لديها الشجاعة لتصارحه بذلك حين حدثها عن عمله.. فوعدته بشرب القهوة معه.. وأخلفت وعدها.. وبقي ينتظرها كل يوم في نفس المكان والزمان.. في هذه الأوقات. كان أصدقاؤه الذين تواتر الخبر إليهم يتعاطفون معه.. ويجلسون لشرب القهوة معه ومواساته.. وبعد وفاته أقيم له تمثال.. وبُني بجانبه مقهى ليأتي الناس لشرب القهوة معه والتعبير عن حبهم له والتعاطف معه.. وتقديرهم للعمل والعمال عموما.. ولعمله وتضحياته خصوصا من أجل أن تكون براتيسلافا نظيفة.. التمثال عبارة عن مجسم لعامل نظافة يتكىء على يديه بوجهه وقبعته على رأسه ويتدلى جسمه كاملا في أنبوب صرف صحي.. القبعة التي على رأسه أصبحت ملساء وتغير لونها من أثر تحية الناس له عبر المسح على رأسه بأيديهم..! فكرة التخليد عادة تنحو مع المبدعين والذين أثروا الحياة الفكرية والإنسانية في مختلف أنحاء العالم.. وتنشد مسار العظماء المصنوعين من طين العبقرية.. ليتعلم الناس مما قدموا للإنسانية.. على مدار قرون طويلة.. وكثيرا مارأينا في مختلف أنحاء العالم تماثيل لمبدعين وعباقرة وعلماء وفلاسفة ومؤسسين.. ملامحهم مشرعة على الفضاء المفتوح وعلى الأفق.. الذي يغيب مداه.. وهم يرون أنهم يجسدون بهذه الأعمال الفنية حقبات من تاريخهم.. وتكريسا لعظمة رموزهم.. وتأكيدا لاحترامهم لهم.. وتقديرهم لقيمتهم.. وفي النهاية التماهي مع رمزية التمثال الذي يرمز إلى ما هو أبعد من الصورة والمكان الذي هو فيه..! في الصين هناك تمثال لعامل النظافة وتقدير لمايقوم به من عمل.. واحترام لقيمته وكينونته كإنسان.. بدونه لايمكن أن تعيش في مجتمع بيئي نظيف وتستطيع أن تتنفس فيه دون أن تشعر أنك محاصر بالنفايات.. وهو أيضا تكريس لفكرة أنّ هذا العامل إنسان يؤدي مهمة ما ووظيفة مثلها مثل أي عمل، وإن حاول البعض بأن يصنفها بأنها وظيفة دونية أو لاترقى إلى مستوى الوظائف التي جزافا تصنف محترمة.. وهي تصنيفات يختص بها المجتمع فقط.. وهو الذي يفندها ويهتم بها ويصنف الناس على أساسها.. دون التوقف أو تفهم أنّ عامل النظافة يجني رزقه بأمانة وإخلاص.. بينما غيره ممن تُصنف وظائفهم بالمحترمة قد يجنحون إلى طريق الخطأ، وما يدخل إليهم من أموال تكون ليست نظيفة أو مستحقة..! على الجانب الآخر وما بدأت به المقال.. هنا لايرمز التمثال فقط إلى مفهوم احترام عامل النظافة.. لأن هذه القضية بالنسبة لهم تم الانتهاء منها.. ولم تعد هي المأساة أو العتمة التي لابد أن يُلقى الضوء عليها.. قضيته من خلال تفسير شكل التمثال ترمز.. أنه وهو عامل النظافة.. الذي يقضي الوقت ليجعلك تتنفس هواء نظيفا.. له مشاعر وأحاسيس جميلة ورقيقة.. توحي بعمق إنسانيته.. ولكنها انكسرت وأذعنت للهزيمة.. وارتطمت بواقع مرير ينظر للناس حسب أعمالهم وأسمائهم وليس دواخلهم أو قلوبهم أو إنسانيتهم.. أو ذواتهم.. مجتمع لايتعامل مع صدقية الدواخل بل يفضل عليها الصورة الفارغة.. هربت منه حبيبته عندما أخبرها بعمله.. ولم تأت في الموعد ومع ذلك ظل ينتظرها حزينا منكسرا.. يسكنه البؤس.. ويعيش داخل لحظة واهمة ومسكوت عليها تمنحه أملا بأنها قد تأتي ذات يوم.. عاش ينتظرها ويواصل عمله.. بحزن يستحيل أن يحجبه عمن حوله.. حتى أصبحت قصته تلك الحكاية المتواترة والتي يتناقلها الرواة.. دخل التاريخ من بوابة احساسه وأحزانه.. واستنطاق الأمل مع مواصلة العمل.. بالحب.. تعاطف معه الأصدقاء وظلوا يواسونه.. ويحضرون إليه لشرب القهوة يحملون تعاطفهم معه.. كسلة أمل.. يراها فتسعده.. وتنحسر همومه على الأقل للحظة.. عندما يشعر بحب من حوله.. وعندما توفي.. دون أن يدرك حبيبته أو يرتبط بها.. صنعوا لها تمثال الحزن والانتظار والوجع والبكاء.. ومع ذلك كان يواصل عمله وقبعته على رأسه.. هذه القبعة التي تحولت إلى حالة رمزية تذوب صلابتها أمام تحايا الناس المحبين والمتعاطفين.. والمتطابقة مشاعرهم معه..! في بعض الأحيان نحن نفقد القدرة على فهم العالم أو ندّعي عدم الفهم ولكن في الواقع أنّ ذلك الموقف الذي عبر منه عامل النظافة المسكين لايزال موجودا ولكن بصور أشنع وأقسى.. تلوح إشاراته ليس للمهنة فقط ولكن للأصل أحيانا وللون أحيانا أخرى.. وللبيئة وللمجتمع.. ولأسباب متعددة.. تجعل من ضحايا هذه المواقف أبطالا ولكن لا أحد يخلدهم أو يعرف قصصهم أو يتوقف عندها.. يهيمن اللامعقول على الحياة منذ الأزل مهما اختلفت المجتمعات وتعددت.. ومهما ازداد التعليم وتنوع.. ولكن تظل هناك معايير وقواعد من الصعب تخطيها أو الاعتقاد أنها ممر سهل..! 638

مشاركة :