رحل الكاتب خالد البسام بعد ان خلف وراءه ثروة ضخمة من الحكايات والكتابات المتميزة بتركيزها على الهوامش والتفاصيل، لم يدع يوما انه مؤرخ، ولكنه كان يستنطق هوامش التاريخ، وما سقط من اخبار الرواة والتقارير ليبحث في ثناياها عن المنسي منها، فيصنع منها حكايات مشوقة تحمل عبق الماضي وبعض اسراره. رحل البسام وفي جعبته المزيد من الحكايا العجيبة، ولم يمهله الموت ليوقظها وينفض عنها غبار السنين، رحل بعد ان ترك كنزا من الإنتاج الادبي والصحفي المصقول والمكتوب بأناقة وذوق رفيع.. وشخصيا عندما أتذكر المرحوم خالد البسام استذكر تلك الحكايات والهوامش التي تأسرني، وقد كانت مدار حديث جرى بيني وبينه حول لماذا التركيز على الهوامش دون المتون في حكاياته وقصصه؟ لماذا كان يركز على التفاصيل دون غيرها؟ يجيب البسام رحمه الله-عن هذا السؤال خلال أحد لقاءاتي معه: إنها حكايات صغيرة فعلا، ولكنها تروي جزءا من تاريخ البحرين المنسي والمجهول، وبعضها يحتاج إلى دراسة موسعة. خذ مثلا تلك المعلومة البسيطة التي التقطتها حول هروب بعض النساء إلى بيت الدولة-مقر دار الاعتماد البريطاني بالمنامة-فلقد كان البيت مليئابالعبيد الفارين من أسيادهم والنساء الهاربات من بيوتهن لأسباب مختلفة، وكيف كان بيت الدولة غير قادر على حمايتهن من سلطة المجتمع آنذاك. إنها مجرد هامش أو حكاية صغيرة، ولكنها ذات أهمية قصوى في دراسة وضع المرأة في ذلك الوقت ومعاناتها وهي بدون حماية في ظل الظلم الاجتماعي القائم في تلك الحقبة البعيدة من الزمن. والحقيقة أن تقارير المخابرات البريطانية كانت مغرقة في التفاصيل، وهي تفاصيل مهمة وذات دلالة، لقد كانت ترصد جميع الحوادث في بلد صغير: حركة السفن وماذا تحمل، عدد الركاب، كم كيسا من القهوة والسكر دخل البلد، من وصل إلى البحرين، ما هي صفاته، حتى أنني وجدت قصة متهم بسرقة جهاز راديو وسجادة من بيت جدي المرحوم سليمان الحمد البسام سنة 1947. وبالرغم من كل هذا التفصيل فإن النشاط الثقافي لم يأخذ حيزا كبيرا، فالبريطانيون لم يهتموا بالثقافة إلا إذا كانت ذات صلة بالسياسة، ولذلك فقد كان هنالك حديث فقط عن النادي الأدبي الإسلامي (1913).. وعن صورة البحرين في الوثائق البريطانية اجابني البسام:الخلاصة الموجزة أن البحرين كانت بالنسبة إليهم درة حقيقية لا يجب أن يدخلها أو يسيطر عليها أحد، لقد كانوا يعرفون أن البحرين منطقة تجاذب سياسي. كانت مركزا حيويا لمنطقة الخليج كلها. وقد رأيت الصورة عادية بدون رتوش وبدون حذف أو رقابة. وتعرفت على الصورة كما بدت في الواقع: لقد كانت صورة بانورامية كشفت كل التفاصيل. وبصراحة أنا أميل إلى تصديق أغلب ما قرأته في تلك الوثائق، لسبب بسيط وهو أن تلك الأوراق كان البريطانيون يكتبونها لأنفسهم، ولأسباب أمنية صرفة، هؤلاء كانوا يرسمون سياسات، وما يكتبونه يجب أن يكون دقيقا ومفصلا وصادقا، ويمكن للباحث أن يميز بين الحقائق والتعليقات حولها أو الآراء ووجهات النظر، وأنا كانت تهمني الحقائق بالدرجة الأولى، لقد اكتشفت أن البريطانيين كانت لهم شبكة مخبرين محلية تمدهم بالمعلومات أولا بأول.. والمهم-يخلص خالد البسام إلى القول-أنني اجتهدت في مقارنة هذه الوثائق والمعلومات الموجودة فيها والمعلومات الأخرى المتوافرة في الوثائق المحلية والروايات الشفهية، وهو ما ساعدني على إعادة بناء الحكايات على نحو قريب جدا من الحقيقة...وأنا أمتلك العديد من الوثائق التي تحمل مئات الحكايات والقصص، وتحتاج إلى وقت كي أوقظها من سباتها ورقادها.!! وعن كيفية تصنيفه لتلك الحكايات وما الأسس التي استند اليها هذا التصنيف، يقول البسام: - لست معنيا بالمعايير الأكاديمية، ولم أدع في يوم من الأيام بأنني أكتب تاريخا أو أنني مهتم بالتأريخ أو بإعداد بحوث، لقد كان خياري منذ البداية هو التركيز على الحكاية الطريفة البديعة الهامشية، وخاصة تلك الحكايا التي أهملها التاريخ الرسمي أو همشها التأريخ الأكاديمي، لقد آليت على نفسي أن أوقظ ما أهمله التاريخ، وحاولت نقله من الهامش إلى الداخل، واعتنيت بالتفاصيل الصغيرة، وتجنبت منذ البداية المنهج التقليدي في الكتابة ومنطق التاريخ الرسمي المتعالي.. كان المهم بالنسبة لي هو أن أكتب التاريخ بشكل آخر مشوق.. جذاب.. يأخذ القارئ إلى عوالم جميلة.. أو على الأقل حاولت.. والذي أكتبه هو في نهاية المطاف حكايات مستندة إلى وثائق وحقائق ومعلومات، وهي من هذه الناحية ذات صدقية عالية، ولكنني أمارس لعبتي المفضلة أثناء الكتابة بأن أسد الكثير من الثغرات وأعيد بناء الحكاية بلغتي ورؤيتي الخاصة، وأضفي الكثير من التشويق والطرافة.. وأنا-يستطرد البسام-عندما أختار القصة أفلت من العناوين الكبيرة وأهرب إلى الخوض في التفاصيل التي تأسرني، ولذلك فإنني أتعامل مع هذه الحكايات بروح الراوي الذي يستمتع بإعادة صياغة وبناء القصة للجمهور وتحويلها إلى نص ذي جاذبية وقدرة على التشويق.. ثم أبدأ عملي الفني في البناء والصياغة يقول البسام-دون المساس بالحقائق ولا يطالها بالتغيير أو التحريف، إنه يتحرك في الهوامش ولكن الجوهر يظل هو نفسه، أنا لا ألجأ إلى الخيال مثلا، وإنما أحاول سد الثغرات واستكمال عناصر القصة من خلال ما أمتلك من معلومات أو من خلال ما اكتسبته من خبرة في هذا المجال.. وباختصار فإنني غير معني بالتاريخ بمفهومه التقليدي الذي يجعل التاريخ مجرد سطور جافة تبعث على الملل وتجلب النعاس للقراء، ولذلك فإنني أعتبر نفسي راو للتاريخ ولست مؤرخا، راو بمعنى الإمتاع وبمعنى إثارة السؤال، ألعب في بنية الحكاية ولغتها دون أن أحرفها مطلقا، سمني ما شئت ليست تلك المشكلة عندي، بل الإبداع هو القضية.. تلك ومضة واحدة من ومضات البسام والتي بقيت في ذاكرتي الصحفية حيث التقيته أكثر من مرة في بداية الالفية، وتعرفت على جانب مهم من جهده المميز الثمين والمتمثل في البعث في تفاصيل تاريخ البحرين، بلغة سلسة ولمسة سحرية تحول تلك الحكايا المنسية الى قصص حية مشوقة، وانا على يقين انه قد كان في جعبة البسام عشرات الحكايات الأخرى التي كان يهم بإيقاظها عندما عاجله الموت على حين غرة، وهو في اوج عطائه، فخسرنا برحيله الكثير الكثير: قلما رشيقا، باحثا مخلصا، ذوقا رفيعا، فكرا متيقظا منتجا، وروحا جميلا... رحم الله خالد البسام فقد كان مبدعا كبيرا.
مشاركة :