إن الدول الإسلامية لا بد لها أن تلحظ مبدأ وحدتها كأمة، لا تعدديتها كدول، ولا فرقتها كمذاهب وملل. ولا بد أن يكون سعيها مستنداً إلى هذه الحقيقة الدينية، التي لا يجوز أن تكون موضع خلاف أو مساومة.. ما الذي يعنيه تشكيل تحالف عريض ضد الإرهاب، يشمل طيفا من الدول الإسلامية، بينها باكستان، الدولة النووية الوحيدة في العالم الإسلامي؟ بداية، إن محاربة الإرهاب عمل مشروع، يفرضه مبدأ الدفاع عن النفس، الوارد في ميثاق الأمم المتحدة. كذلك، فإن السعي للتعاون الثنائي، أو الإقليمي أو الدولي، للتصدي للإرهاب، وظواهره ومسبباته، يُعد من مقتضيات صون الأمن بما هو حاجة أصيلة لبني الإنسان. في الأصل، قطع العمل الدولي شوطاً على طريق مواجهة التطرف وظواهره، لكن نتائجه لم تكن مرضية أو مثمرة بما فيه الكفاية، وذلك يعود لغياب الخطط بعيدة المدى، وأحياناً انعدام الرؤية، والاستغراق في مواجهة الظواهر دون الالتفات لمسبباتها. وهذه القضية يجري التداول بها على نحو مستمر منذ العام 2001. وكانت موضع تداول أقل ووضحاً قبل ذلك، وخاصة في عقد التسعينيات من القرن العشرين. إن العمل الدولي المتعدد الأطراف وجد نفسه أمام متغيّر كبير على هذا الصعيد، اعتباراً من العام 2012، عندما بدأت سورية تتحول رويداً رويدا إلى قاعدة عريضة للمجموعات المسلحة، التي وفدت من مختلف الأقاليم والقارات، مستهدفة ركائز الدولة والمجتمع، وهدم التاريخ. وبالطبع، بدت الدول الإسلامية معنية بهذا الواقع، الذي بات اليوم خارج الحسابات والرهانات الأولى، ولم يعد هناك من بمقدوره القول إنه رابح فيه. هذه الأمة، ذات المليار ونصف المليار نسمة، التي تمتد حدودها من جاوا حتى غويانا، خسرت الكثير، بشرياً ومادياً وحضارياً، ولازال النزف مستمراً. في التأصيل الجوهري لخيار التعاون الإسلامي، يُمكن أن نلحظ أن العالم الإسلامي يُمثل نظاماً دولياً عابراً للقارات. وهو إطار جيوسياسي لمجموعة من الدول، تتجاوز روابطها المعايير الجغرافية والقومية، وتنتمي إلى دين واحد هو الإسلام. والعالم الإسلامي، بهذا المعنى، يصعب تعريفه على أنه نظام إقليمي، وذلك لغياب المشترك الجغرافي بين دوله. كما أن مصطلح النظام الدولي الفرعي يبقى هو الآخر ذا طبيعة إشكاليةً، في إطار هذه المقاربة. ويستند العالم الإسلامي إلى الإسلام، بما هو مشترك عقيدي -ثقافي، لكنه لا يُمثل، في الوقت ذاته، كافة الدول ذات الغالبية المسلمة، فضلاً عن عدم شموله الأقليات الإسلامية في العالم. إن المقصود بالعالم الإسلامي هو مجموع الدول السبع والخمسين التي تنتمي رسمياً إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، التي اعتمد ميثاقها في القمة الإسلامية الحادية عشرة، التي عقدت في دكار في 13 - 14 آذار مارس 2008. وتبلغ المساحة الإجمالية للعالم الإسلامي 32 مليون كيلومتر مربعاً، قبل استقلال جنوب السودان، تمتد من إندونيسيا شرقاً إلى حدود البرازيل غرباً، حيث جمهورية غويانا، الأميركية الجنوبية، المسلمة. وتعادل مساحة العالم الإسلامي أكثر من سبعة أضعاف مساحة دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، وحوالي ضعف مساحة روسيا، التي تعد أكبر دول العالم. وتعد إندونيسيا أكبر دولة إسلامية من حيث التعداد السكاني، تليها باكستان فبنغلادش فنيجيريا. ومن ناحيتها، تمثل الأقليات الإسلامية الكبيرة في العالم ثقلاً معززاً للعالم الإسلامي، بما هو كتلة جيوسياسية ذات مضمون حضاري. وتتواجد أبرز هذه الأقليات في الهند، التي تضم ثاني أكبر كتلة ديموغرافية مسلمة على صعيد عالمي، بعد إندونيسيا. حيث يبلغ عدد المسلمين الهنود نحو مائتي مليون نسمة. وبدورها، تضم الصين أكثر من 130 مليون مسلم، أي حوالي عشر سكان العالم الإسلامي. أما روسيا فيبلغ عدد المسلمين فيها 27 مليون نسمة - كحد أدنى. على صعيد جغرافي، تعتبر كازاخستان أكبر دول العالم الإسلامي مساحة، إذ تبلغ مساحتها مليونين وسبعمائة ألف كيلو متر مربع. وهو ما يعادل مساحة دول أوروبا الغربية مجتمعة. وتبلغ إجمالي مساحة أكبر خمس دول إسلامية ما مجموعه 11 مليون و640 ألف كيلومتر مربع. أي ما يفوق ثلث المساحة الإجمالية للعالم الإسلامي. وهذه الدول هي على التوالي: كازاخستان، السودان (قبل استقلال الجنوب)، الجزائر، السعودية وإندونيسيا. وبالعودة إلى أصل مقاربة العمل الإسلامي المشترك، لا بد من التأكيد على أن المسلمين معنيون بتوحيد جهودهم لمواجهة التحديات الماثلة. والتعاون في مواجهة الأخطار، بما فيها ظاهرة غياب الأمن أو تشظيه، هو عمل مشروع تقره القوانين والأعراف الدولية، بما فيها ميثاق الأمم المتحدة ذاته. ولعل هناك الكثير مما ينبغي العمل على تسويته وإصلاحه اليوم في عالمنا الإسلامي، إلا أن الإرهاب يبقى الظاهرة الأكثر تحدياً للدول والمجتمعات. والتصدي للإرهاب لا بد أن ينهض بالضرورة على منظومة متكاملة من السياسات الثقافية والاجتماعية والعسكرية، التي لا ينفصل بعضها عن بعض. ومن دون ذلك، فإن النتائج لا تكون مثمرة، بل قد تكون عكسية تماماً. إن على المسلمين بداية أن يكسبوا معركة الأفكار، وهي الأصل الذي يجب أن تستند إليه أية مقاربة للتعاون الإسلامي في مواجهة التطرف والغلو. دعونا نسخر الطاقات والجهود لتذكير الأمة بقيم التسامح التي جاء بها إسلامنا الحنيف. ودعونا نوضح للناس كيف أن الغلو يُمثل خروجاً عن الصراط، وأن التطرف تشويه للدين ذاته، وتدمير للأمة ومقدراتها. فكرياً، هناك عمل كبير ينبغي النهوض به دونما كلل أو ملل، يبدأ من الروضة وصولاً إلى التلفاز، وحتى مواقع التواصل الاجتماعي. وهناك أيضاً جهد ثقافي، اجتماعي –أهلي، لا يقل أهمية عن سابقة، يتمثل في زرع روح التعايش بين أفراد المجتمع الواحد، ونبذ النزعات الجهوية والقبلية والمذهبية، المدمرة للأمة، بوجودها المادي والحضاري على حد السواء. وعلى الدول الإسلامية، وهي تقارب السعي لمواجهة التطرف، ألا تقع في غواية الخيارات الانتقائية، على النحو الذي يمارسه المجتمع الدولي اليوم. على هذه الدول أن تدرك بأن النجاح لا يتحقق دون ركائز وأسس قويمة، تبدأ بمعالجة الأسباب والخلفيات، وخاصة الجوانب الفكرية والثقافية. وعندما نتحدث عن هذه الجوانب فإننا نعني الكثير مما قد لا يقال عادة، وربما مثل معلوماً مسكوتاً عنه. وهذه معضلة بذاتها. وكما أن إصلاح حواضن الفكر ضرورة لا غنى عنها، فإن وسائل الإعلام بدورها لا بد أن تضيء شعلة على طريق بناء المجتمع المتسامح، البعيد عن الغلو والتطرف. وإذا كنا لا نريد تقويض المجتمع، أو ضرب ركائز عيشه الأهلي، وفسح الطريق تالياً للتطرف، فعلينا أن نرفض صراحة، ودونما مواربة، منطق الإلغاء، والمذهبية المستترة، والنزوع الطائفي الشرير. إن الدول الإسلامية تمتلك، بما هي دول، كل مقومات التنشئة الثقافية السليمة، التي تصنع مجتمعاً عصياً على ثقافة الغلو والتطرف. ولذا لا بد أن تجعل من حرب الأفكار أولوية متقدمة في برامجها وخططها الخاصة، كما في تعاونها الإقليمي. وإذا عدنا للقول بأن مواجهة الغلو وظواهره المختلفة بحاجة إلى منظومة عريضة من السياسات، فلابد من التأكيد على توافر عنصري التكامل والتوازن ضمن هذه المنظومة، لتغدو ناجعة وفاعلة، وذات مردود حقيقي لا وهمي. إن الخوف هنا يكمن في أمرين أساسيين، هما: الاستغراق في تفاصيل غير مجدية، وإضاعة سلم الأولويات. هذان الخطران يجب أن يُلحظا من قبل الدول الإسلامية، على مستوى سياساتها الخاصة، وتعاونها الإقليمي، وحتى الدولي. كذلك، فإن الدول الإسلامية لا بد لها أن تلحظ مبدأ وحدتها كأمة، لا تعدديتها كدول، ولا فرقتها كمذاهب وملل. ولا بد أن يكون سعيها مستنداً إلى هذه الحقيقة الدينية، التي لا يجوز أن تكون موضع خلاف أو مساومة. وإذا كانت هناك من حالات خاصة، في إطار النطاق الإسلامي العام، يجب تسليط الضوء عليها، ومنحها أولوية استثنائية، في مسيرة بحث الأمة الإسلامية عن أمنها، ومواجهتها لمخاطر التطرف والغلو، فقد تكون سورية الراهنة هي المركز الذي تتركز عليه الحزمة الأكبر من الأضواء. والحقيقة، أنه لابد للمسلمين عامة أن يدركوا بأن سورية تدفع اليوم ثمن إرهاب دولي النطاق، تكالب عليها من جهات الأرض الأربع، وسعى لتقويض ركائز الدولة والمجتمع والتاريخ. وهي تُعد ضحية لتيه السياسات الدولية وتخبطها وازدواجيتها. إن الدول الإسلامية معنية بالتعاون على البر والتقوى، والبحث في سبل حماية الأمة وصيانتها من شرور الغلو والتطرف.
مشاركة :