رؤية في الدبلوماسية الوقائية - عبد الجليل زيد المرهون

  • 1/29/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

كيف يُمكن تعريف الدبلوماسية الوقائية؟ وما هي الأدوات التي ترتكز عليها؟ بداية، لا بد من الاعتراف بأننا بصدد مفهوم إشكالي بالكامل، فالدبلوماسية الوقائية لا تعد تعبيراً رديفاً للفعل الوقائي في تجلياته العامة كما أنها ليست سلوكاً سياسياً خالصاً. إن تعريفاً مبدئياً للدبلوماسية الوقائية يُمكن بلورته على النحو التالي: هي فعل استباقي يستهدف السيطرة على أخطار محتملة، بأدوات سياسية واقتصادية وثقافية. ويستند بالضرورة إلى رؤية تلحظ نسقاً متكاملاً لخصائص ومتطلبات الأمن القومي لدول أو تجمعات إقليمية، أو للأمن الدولي عامة. على مستوى منطقة الخليج العربي تحديداً، فإننا ككتاب وباحثين خليجيين معنيون كثيراً ببلورة المفاهيم والرؤى الفكرية وطرحها في سياق يخدم الأمن والاستقرار الإقليمي. وهذه هي رسالتنا التي يجب أن نوليها العناية الكاملة. وكما قال الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، فإن الدبلوماسية الوقائية ليست خياراً بل ضرورة ومن هنا، فإن الدبلوماسية الوقائية ليست دبلوماسية عفوية، بل مخططة، ومستندة إلى تحليل واسع النطاق لثلاثة بنود هي: الأخطار، وأدوات التحرك، والنتائج المحتملة. ومن هنا، فإن الدول التي تتحرك دبلوماسيتها على نحو وقائي لا بد وأنها ترتكز في الأصل إلى هيئات بحث، ومراكز تخطيط، قوية وذات تأثير. ولأول وهلة، فإن الدبلوماسية الوقائية قد تفهم وكأنها جزء من مسؤولية هيئات السياسة الخارجية للدول. ولكن ليس هذا هو الواقع، حتى وإن كانت هذه الهيئات تنهض بنشاط دبلوماسي وقائي، بفعل طبيعة مهامها. إن الدبلوماسية الوقائية تقع على عاتق الدولة بما هي دولة. ولكنها لا تنحصر، في الوقت ذاته، في إطار الدول. الدولة هي المعنية بالدبلوماسية الوقائية، لكنها ليست معنياً حصرياً بها. إن المجتمع ككل معني بالدبلوماسية الوقائية. وهو يمارس دوره في هذا الإطار من خلال هيئاته ومؤسساته الفاعلة، التي تتمتع بقدرات تخطيطية وتنفيذية ناجزة. وبعد ذلك، فإن السؤال هو: كيف يُمكن تسخير قدرات الدولة والمجتمع لبلورة دبلوماسية وقائية، متماسكة وذات تأثير؟ بالطبع، هذا سؤال كبير، والإجابة عنه يصعب مقاربتها في سياق إداري أو مؤسسي بحت. فهذه ستكون اخترالية ضارة، وعلى الأرجح مضللة. إن المقاربة هنا هي بالضرورة ذات عناصر متعددة، لا يشكل البعد الإداري سوى واحد منها. وقد لا يُمثل بعدها المركزي. إن تسخير طاقات الدولة والمجتمع لبناء دبلوماسية وقائية، متعددة الطبقات والأبعاد، يبدأ بتحديد ماهية الأخطار، الظاهرة منها والكامنة: ماهية الخطر ومنبعه واتجاهه ودرجة تطوّره. وهذا جزء من مقاربة الدول لأمنها القومي. وبعد ذلك، تأتي مرحلة نشر الوعي، باعتباره مقدمة حيوية لصيانة الأمن. في المرحلة الثالثة، يجري تحديد ما الذي يُمكن عمله على مستوى كل خطر. وأخيراً، يتم تحديد الجهة الأهلية أو العامة التي تنهض بالدبلوماسية الوقائية، التي من شأنها أن تحول دون وصول الخطر الافتراضي إلى مستوى الخطر الفعلي، أو تطوّر التهديد الكامن إلى تهديد سافر. وباعتبار أن الدولة، أية دولة، قد تواجه في وقت متزامن منظومة عريضة من الأخطار، فإن الحكمة تقتضي منح قطاعات واسعة من المجتمع الأهلي والمجتمع العام دوراً في الدبلوماسية الوقائية، على مستوى التخطيط والتنفيذ، وتحصيل الموارد الضرورية لهذه الدبلوماسية. إن القضية هنا ليست سهلة بالطبع، وهي تستوجب نسقاً تنظيمياً متعدد الطبقات، يعمل تراتبياً، بمركزية مباشرة أو غير مباشرة. أو بحد أدنى من التنسيق. إن الدول والأمم تغدو رابحة بقدر ما تستثمر في الدبلوماسية الوقائية. إنها تربح الأمن والرفاهية، وتحافظ على مكتسباتها القائمة. والبديل عن الدبلوماسية الوقائية هو بديل مكلف بالضرورة. إنه قد يمنع الخطر ولكن بثمن باهظ، وقد يطوّق أزمة لكنه يؤسس لأزمة أخرى لم تكن في الحسبان. وكما على مستوى الدولة القومية، كذلك على صعيد الأقاليم الأوسع نطاقاً، تبرز الدبلوماسية الوقائية كسبيل أمضى لصيانة الأمن والسلم الإقليمي. ويحدث ذلك من خلال تشخيص التحديات والتهديدات الظاهرة والكامنة، ومقاربتها في إطار مشترك، وعدم السماح لها بالخروج عن نطاق السيطرة. وهذه التهديدات قد تنسف استقرار الساحات المحلية لدول منطقة أو إقليم معين، وقد تكون عاملاً في إذكاء الصراع بين الدول، وتغليب تفاعلاتها السالبة على كل ما عداها. وبالنسبة للعلاقة بين الدول، فإن الدبلوماسية الوقائية تتجاوز مسألة محاصرة مصادر التهديد والتعامل المشترك معها، إلى بناء المؤسسات المشتركة، المؤطرة للتعاون الإقليمي. وفي الحد الأدنى، بناء إجراءات ثقة إقليمية، قادرة على محاصرة التوترات، ومنع خروجها عن نطاق السيطرة. وإجراءات الثقة هذه مثلت أبرز توصيات رواد المدرسة الإقليمية، التي تعززت في سبعينيات القرن العشرين، وطبعت كافة الأدبيات التالية لها. بل وتفوقت على كل ما سبقها، منهجاً وتحليلاً واستنتاجاً. ومدرسة السبعينيات الإقليمية هذه لم تكن وليدة ثورة نظرية بقدر ما كانت نتاجاً معرفياً لتجربة واقعية مثلتها أوروبا. هذه المدرسة، ونتاجات روادها الكبار، اهتمت كثيراً بتحليل التجربة الأوروبية، وقدمت، في إطار معرفي، خلاصاتها ودلالاتها بالنسبة لأقاليم العالم المختلفة. إن أوروبا الراهنة هي بنت الدبلوماسية الوقائية، بمفهومها الكلي. إنها بنت معاهدة وستفاليا ومعاهدة الفحم والصلب. معاهدة وستفاليا أنهت الحروب المذهبية، ووضعت أسس الدولة القومية بمعناها الحديث، ومعاهدة الفحم والصلب، أنهت حروب الدول في أوروبا، وقادت لتشكيل المجموعة الأوروبية ومن ثم الاتحاد الأوروبي. وعلى أقاليم العالم أن تختار بين نموذجي أوروبا ما قبل وستفاليا، وما بعد الاتحاد الأوروبي. هذه ليست قضية سياسية، بل خيار أيديولوجي. وفي حسابات الأمن الإقليمي، ليس بالمقدور المزاوجة بين جملة من الخيارات المتناقضة. بنية الأمن الإقليمي، واستتباعاً المجموعات الإقليمية، لا تنهض استناداً إلى معايير عرقية أو انتماءات تحتية أخرى. هذه هي تجربة أوروبا الماثلة للعيان. لم تخترع المدرسة الإقليمية مقولاتها من فرضيات بحاجة إلى إثبات، بل اشتقتها من أرض الواقع. ومن هنا، نالت التقدير والاعجاب الكبير. وما هو أبعد من ذلك، فإن بعضاً مما انتهت إليه التجربة الأوروبية، بما هي تجربة إقليمية (أو دولية فرعية) قد جرى تطبيقه لحل نزاعات ذات طابع ثنائي، أو شبه داخلي، كما حدث في التجربة الإيرلندية. تأملوا جيداً في كيفية حل الأزمة الإيرلندية. وكيف جاءت في سياق مفاهيم المدرسة الإقليمية، وخاصة لجهة تعزيز إجراءات الثقة، وبناء الهياكل المشتركة، وتطوير التفاعلات الإيجابية، لتتغلب تلقائياً على التفاعلات الصراعية وتطمسها. هذه هي التجربة الإيرلندية تأملوا فيها. إنها قريبة منا على مستوى الزمان والمكان. إن فلسفة الدبلوماسية الوقائية قد ولدت مع معاهدة وستفاليا وكانت ابنتها. وعادت وولدت مع تطوّر الإقليمية الأوروبية. وقام رواد المدرسة الإقليمية في السبعينيات بمنحها الكثير من المضامين النظرية والمنهجية، وبلوروا لها أدوات التحليل الخاصة بها، لتغدو متينة ومتماسكة، وذات مصداقية عالية. وبات جائزاً، في التحليل الأخير، القول إن المدرسة الإقليمية هي الأفق الرحب الذي تطوّرت في إطاره فلسفة الدبلوماسية الوقائية. وأياً يكن الأمر، فالدبلوماسية الوقائية هي أفضل الطرق وأقصرها لتطويق مصادر التهديد، وبناء السلم والاستقرار، وصيانة مكتسبات المجتمع. وبالنسبة لنا في الشرق الأوسط، يبدو من الأهمية بمكان أن تولي جامعاتنا مزيداً من العناية لتطوير مفاهيم الدبلوماسية الوقائية، وتطويع أدواتها التحليلية لتنسجم وخصائص بيئتنا الجغرافية والاجتماعية. إن المطلوب هو جهد علمي متكامل على مستوى التأليف والتدريس والبحث الجامعي. وهذه مهمة تستحق أن تسخر لأجلها كافة الطاقات المتاحة. وبالطبع، فإن مهمة كهذه لا بد وأن تكون ذات طابع بعيد المدى، يتسم بالتواصل، والتكيّف مع التحوّلات، ولا يجوز أن يقتصر على إجراء منعزل يجري اعتماده في لحظة من اللحظات. وفي الوقت ذاته، يجب الإقرار بأن العمل المؤسسي المشترك، قد يعجز، على مستوى الابداع الفكري، عن إنتاج ما قد ينتجه باحث أو مفكر بجهده الفردي الخاص. وهذه بالطبع سنة العمل الفكري. وإن الرواد والمبدعين الكبار في هذا العالم قد اجتهدوا ذاتياً وقدموا إبداعاتهم للبشرية. وكانت هذه هي رسالتهم. ولا شيء سوى ذلك. وفي الغالب، فإن هؤلاء عاشوا حياة فيها قدر من نكران الذات. ولا حاجة هنا لتعداد الأسماء فالجميع يعرفها. إننا اليوم في عالم قد تغيّر كثيراً قياساً بما كان عليه قبل ثلاثة عقود أو أقل. وهذا التغيير أو التحوّل، فرض نمطاً من التحديات أكثر تعقيداً، وأكثر قدرة على نسف الأمن والسلم، في سياقاته الوطنية، كما الإقليمية والدولية. ومن هنا، فإن الالتفات إلى الدبلوماسية الوقائية والتركيز عليها، يُمثل رسالة سامية على جميع المعنيين النهوض بها. وعلى مستوى منطقة الخليج العربي تحديداً، فإننا ككتاب وباحثين خليجيين معنيون كثيراً ببلورة المفاهيم والرؤى الفكرية وطرحها في سياق يخدم الأمن والاستقرار الإقليمي. وهذه هي رسالتنا التي يجب أن نوليها العناية الكاملة. وكما قال الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، فإن الدبلوماسية الوقائية ليست خياراً بل ضرورة. abduljaleel.almarhoon@gmail.com

مشاركة :