رؤية في الدراسات الاستراتيجية - عبد الجليل زيد المرهون

  • 3/4/2016
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

إن الدراسات الاستراتيجية، ذات الصلة بالدفاع، لازالت الأكثر عمقاً واتساعاً. كما أنها الأكثر حضوراً بالمعنى الكمي أيضاً. وهذا يعود أساساً لالتصاقها التأصيلي ببرامج التعليم والتدريب في الكليات العسكرية، ووزارات الدفاع أين تقع البحوث الاستراتيجية في التعريف الأكاديمي؟ ما هي أبرز اهتماماتها؟ وما هو واقعها الراهن؟ إننا بصدد إحدى الإشكالات القديمة التي فرضت نفسها علمياً، على مستوى التعريف والتوصيف والنطاق. يُمكن للمرء اليوم العثور على منظومة عريضة من التعريفات التي سعت لتفسير معنى "دراسات استراتيجية". هذه بداية المشكلة، أو مقدمة التحدي العلمي، الذي لا يُمكن تجاهله. هناك تعريف إجمالي، ذو منحى بنيوي، لمقاربة مفهوم الدراسات الاستراتيجية، ربما بدا الأكثر قرباً للواقع بين عموم التعريفات المتداولة. هذا التعريف، يحيل المصطلح إلى رؤية تلحظ كافة الأبعاد والمضامين المتعلقة بالقضية موضع الدراسة، ويكون البحث ذا طابع استراتيجي متى لحظها كاملة. هذا التعريف، يُمكن النظر إليه باعتباره تعريفاً تصالحياً، أو تعريف تسوية، بالمعنى الأكاديمي. وبالنسبة لدارسي الأمن والدفاع، على وجه خاص، لا بد وأن يكونوا حذرين في مزاوجتهم بين المعنى البنيوي العام للمصطلح وبين مدلوله الذي ولد معه في سياق تاريخي. وأي ميل في المقاربة، بهذا الاتجاه أو ذاك، من شأنه أن ينطوي على خطأ علمي، له تداعياته الضارة، بل والمضللة أيضاً. وبوجه عام، فإن الدارسين، في كافة الحقول، عليهم الموازنة بين المدلول العام للمفهوم، وذلك الذي يرتبط بمجال بحثهم، ذلك أن المصطلح قد أخذ مع مرور الزمن، مدلولات خاصة عديدة، ذات صلة باختصاصات شتى. هذه قضية أكاديمية جوهرية، ذات بُعد تأسيسي في مقاربة البحوث الاستراتيجية، لا بد من التأكيد عليها والانطلاق منها. ومتى حدث ذلك، فإن جزءاً من الإشكالية سوف يحل، بالمدلول المعرفي العام، لكنه قد يغيب على مستوى التطبيق، ما لم يرسخ عميقاً في رؤية الباحث وإدراكه العملي. ومن المسؤول عن التصدي لهذه المهمة؟ هل هي مناهج التعليم ذاتها، أم مراكز البحث العلمي وهيئاته العاملة على أرض الواقع؟ بالطبع، هذا سؤال صعب. وقد تحمل الإجابة عليه انحيازاً أو تحاملاً لا يجوز الوقوع فيه. وعلى الرغم من ذلك، فالأصل أن تكون مناهج التعليم هي المعني بذلك، في سياق مقررات مادة البحث العلمي. ولكن هنا أيضاً تبرز معضلة لا يصح تجاهلها. فهذه المادة تدرس في سنوات التعليم الجامعي الأساسي، في وقت يفتقد فيه الطالب غالباً الخبرة في مقاربة البحث العلمي ذاته، ناهيك عن تمايزاته الأكثر تعقيداً. وبالتالي، قد يبدو من الاجحاف إلقاء اللوم على الجامعة. وماذا عن مراكز البحث العلمي؟ بالطبع، هذه المراكز لا تحمل رسالة مماثلة لتلك التي تعنى بها مؤسسات التعليم، بل هي معنية بتحويل مدخلات التعليم الجامعي إلى تطبيق عملي ذي صلة بالواقع. ما الحل إذاً؟ لا يوجد حل على المدى القريب. وسيبقى البحث العلمي يعاني من فجوة على مستوى المفاهيم وتطبيقاتها فيما يرتبط بالدراسات الاستراتيجية. إن أحد الحلول، التي يُمكن تبنيها عالمياً على المدى المتوسط، أو البعيد، يتمثل في اعتماد مقرر خاص بالبحث الاستراتيجي، يتناول مقاربة المفهوم، وتطوّره التاريخي، ودلالاته الخاصة والعامة، ومناهج البحث الخاصة به (وليس البحث العلمي العام)، وأدوات التحليل الخاصة، سواء تلك السائدة فعلاً، أو التي يُمكن ابتكارها أو تطويرها. هذه مهمة لا بد من التصدي المسؤول لها من قبل خبراء الدراسات الاستراتيجية، بمختلف مواقعهم، حول العالم عامة. بعد ذلك، دعونا ننتقل من المفهوم إلى حيث تطبيقاته، المتباينة أو المتوازية، في سياقها التاريخي والراهن. في التطبيق العملي، التصق مصطلح الدراسات الاستراتيجية، بصفة أساسية، بأربع دوائر، هي: الدفاع، والجيوبوليتيك الكلاسيكي العام، وتحليل البيئة الجيوسياسية، وأخيراً العلاقات الدولية. الأول هو الأصل، والثاني منافس صعب له، والثالث سياق متحول ولد من رحم الأول، وبدا مزاحماً له، على مستوى المفهوم والتطبيق، بل ومتداخلاً معه على نحو كبير. أما الأخير، أي العلاقات الدولية، فصلتها بالدراسات الاستراتيجية تعد صلة توليفية، وليست أصيلة. تُعد الدراسات الاستراتيجية، في حقل الدفاع والعلوم العسكرية، ذات فروع ومسارات كثيرة جداً. وهي تبدأ "بالجغرافيا العسكرية" ولا تنتهي بالتكنولوجيا الحربية. وفي السنوات الأخيرة، أضيفت لها مجالات جديدة، مثل أمن الشبكات و"السلاح الخامس"، وهو سلاح الحرب الإلكترونية الجديدة. إن الدراسات الاستراتيجية، ذات الصلة بالدفاع، لازالت الأكثر عمقاً واتساعاً. كما أنها الأكثر حضوراً بالمعنى الكمي أيضاً. وهذا يعود أساساً لالتصاقها التأصيلي ببرامج التعليم والتدريب في الكليات العسكرية، ووزارات الدفاع. وذلك فضلاً عن شركات السلاح العالمية، ذات الإمكانات الطائلة. ولا غرابة، والحال هذه، أن التصق مفهوم الدراسات الاستراتيجية بدراسات الدفاع، وبات رديفاً لغوياً لها، بالمدلول غير النظامي للمصطلح. أو لنقل بات هكذا في ذهن الكثير من الناس. من ناحيتها، كانت دراسات الجيوبوليتيك العام، بمفهومه التقليدي، تحل في المرتبة الثانية على سلم الدراسات الاستراتيجية، إلا أن نوعاً من الانتكاسة قد انتابت هذه الدراسات منذ بضعة عقود. وهذا بالطبع مع صحة القول باستمرار بعض فروعها، التي بدت وكأنها منفصلة عن جذورها الأولى. الدراسات المتجهة لتحليل البيئة الجيوسياسة، تأتي في المرتبة الثالثة على سلم الدراسات الاستراتيجية، وهي على خلاف دراسات الجيوبوليتيك الكلاسيكي، يبدو المستقبل أمامها لا خلفها. هذه الدراسات، ولدت تاريخياً من رحم دراسات الدفاع على نحو لا لبس فيه. وقد جرى تطوير مناهجها الأولى من قبل خبراء الاستراتيجيات العسكرية أنفسهم. والعلاقة بين الفرعين هي علاقة الفرع بالأصل. ولا مشكلة مفاهيم بينهما، على خلاف ما هو حاصل بين الدفاع والجيوبوليتيك الكلاسيكي. ورويداً رويدا، تبلوّر حقل بحثي منفصل، ولكن دون أن يتبلوّر حقل دراسي قائم بذاته على هذا صعيد تحليل البيئة الجيوسياسية، فالدراسات الخاصة بهذا التحليل (وليس التحليل الجيوبوليتيكي العام) تمثل حلقة وصل بين حقلي الدفاع والعلاقات الدولية. المرتبة الرابعة في سلم الدراسات الاستراتيجية، تجسدها البحوث ذات الصلة بالنظام الدولي والعلاقات الدولية. هذه الدراسات قد تكون الأكثر حضوراً على مستوى جمهور الباحثين وخبراء السياسة، وكذلك المعنيين بالشأن السياسي، ولدى الرأي العام الدولي. وعلى الرغم من ذلك فهي ليست الأكثر ارتباطاً بالمفهوم الكلاسيكي للدراسات الاستراتيجية، ولا تحتل الموقع الأول على الصعيد الكمي في إجمالي هذه الدراسات. وتقليداً، ركزت الدراسات الاستراتيجية، ذات الصلة بالعلاقات الدولية، على قضايا من قبيل الأمن الدولي (بالمعنى العام لا الدفاعي أو العسكري)، وتحليل السياسة الخارجية، وصيرورة النظام الدولي وتطوّره. ومسائل أخرى، متفرعة من هذه القضايا، أو أقل مركزية منها. بعد ذلك كله، يجب التأكيد على حقيقة مفادها أن الحكم على الطابع الاستراتيجي لدراسة ما من عدمه لا يبدو أمراً سهلاً. في هذا الحكم، هناك ثلاثة أمور أساسية لا بد من الانتباه إليها: الأول، مدى بنيوية البحث وتكامل أبعاده، وإن كنا بصدد مقاربة قضايا فرعية وحسب. والثاني، ماهية المنهج ومدى ارتباطه بهذه البنيوية واستيعابه الحقيقي لها. والثالث، طبيعة الأدوات التحليلية المعتمدة، ومدى قدرتها على الابتكار. وفي خلاصة الحكم، لا بد من تجنب أي ميول معيارية. وفي عالمنا اليوم، هناك سلسلة طويلة من مراكز البحث التي تعنى بفرع أو آخر من الدراسات الاستراتيجية. وعلى المستوى الكمي، اتسع نطاق هذه المراكز في الربع قرن الأخير، أو لنقل بعد انتهاء الحرب الباردة. وفي ذلك مغزى واضح. وهذه المركز نوعان: الأول، تم تأسيسه من قبل دول بذاتها، بهدف تطوير سياساتها المحلية أو الخارجية. والثاني، جرى تأسيسه من قبل هيئات خاصة، ليتجه للبحث العلمي بما هو صناعة قائمة بذاتها، تسعى لتقديم أطروحاتها واستنتاجاتها في سياق عام. وهذه المراكز أكثر انتشاراً اليوم. ويعد بعضها الأكثر إمكانية على مستوى الموارد، على صعيد دولي. وبالطبع، فإن المعيار في الحكم على مؤسسة بحثية ما لا يجوز أن يكون حجم ما تمتلكه من موارد وإمكانات، بل هو بالضرورة مدى التزامها بمعايير البحث العلمي، ونجاحها في تقديم ما هو جديد وخلاق. ولا يبدو من الموضوعية في شيء الدخول في مقارنات معيارية بين مراكز البحث الاستراتيجي حول العالم. ويجب التأكيد بدلاً من ذلك على حقيقة أن كل من هذه المراكز يُمكنه أن يقدم بعضاً مما قد يصعب على الآخرين تقديمه لاعتبارات موضوعية، وليست خاصة. وفي المجمل، من المفيد أن نسعى لتشجيع صناعة البحث الاستراتيجي، والنظر إليها باعتبارها حالة صحية، وحاجة مثلى لا غنى للأمم عنها. بل هي، في التحليل الأخير، إحدى ضرورات التطوّر. abduljaleel.almarhoon@gmail.com

مشاركة :