لنرجع خطوة إلى الوراء في نظرة سريعة على عالم 2018 - 2019، فقد كان السياسيون يهاجمون السياسة النقدية للبنك المركزي وآليات الإشراف على البنوك عبر دول العالم من الولايات المتحدة مرورا بإيطاليا وتركيا، حتى الهند. وأرادت الأطراف الفاعلة ذات النفوذ في القطاع الخاص قيام البنوك المركزية بشراء أسهمها حال قدوم موجة الركود التالية. ورحب التكنوقراطيون أنفسهم بدعوات المراكز البحثية إلى توجيه عرض الائتمان نحو تمويل قضايا تغير المناخ وعدم المساواة ونمو الإنتاجية وغيرها من المشكلات الاجتماعية الملحة، بينما كانت تتم مساءلة بعضهم بسبب التدخل في السياسة والانحراف عن المهام المنوطة بهم. وفي بعض دول العالم، دعا اليسار السياسي إلى التيسير الكمي الشعبي، وسعى التحرريون إلى ملاذ العملات المشفرة الصادرة عن الجهات الخاصة، بينما استمر المتطرفون من أصحاب نظرية المؤامرة في النظر إلى المسؤولين النقديين باعتبارهم في معسكر واحد مع أعداء الشعب. وسواء كنت من المؤيدين أو المعارضين، فقد كان واضحا، حتى قبل أزمة كوفيد – 19 أن هناك خطبا ما في قطاع البنوك المركزية الذي كان على درجة كبيرة من الاتزان في السابق، فقد بدأ البنك المركزي يتحول من كيان منفرد يتطلع إليه الجميع إلى كابوس سياسي ودستوري. ثم جاءت جائحة كوفيد – 19 ليعود قطاع البنوك المركزية إلى دوره السابق في الفترة من الثلاثينيات إلى الثمانينيات عندما كان مجرد أداة بالنسبة إلى وزراء المالية. وفي بعض الدول، ولا سيما الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، كان البنك المركزي في الواقع يقوم بدور الحكومات التي تفتقر إلى القدرة على اتخاذ إجراءات تتسم بالسرعة والحسم، وبذلك كان يخاطر بأن يصبح هو السلطة المالية العامة الفعلية. وفي دول أخرى كالمملكة المتحدة، ربما يمول البنك المركزي الحكومة التنفيذية، وقد يكون ذلك في ظل غياب إطار يضمن مسارا واضحا للخروج، وبذلك يخاطر بتحرير الحكومة المركزية من القيود التي يفرضها عليه المجلس المنتخب. تذكرنا هذه التطورات الأخيرة بأنه كان يوجد في الماضي نموذجان مختلفان تماما للبنوك المركزية. في النموذج الأول، يعد البنك المركزي في بلد ما هو الذراع التنفيذية للسياسة المالية الحكومية، وتتحدد وظائفه في ضوء مزاياه التنافسية التكنوقراطية. وينطبق هذا النموذج على البنوك المركزية التي يعتمد عليها نظام الدفع كما أشار فرانسيس بارينج قرب نهاية القرن الـ18. ويقدم البنك المركزي، بوصفه قائدا لفريق مجتمع البنوك، ما يطلق عليه الاقتصاديون مصطلح "سلع النادي". وفي النموذج الآخر، تعد البنوك المركزية هيئات مستقلة مكلفة بمسؤوليات معينة ومنعزلة رسميا عن الشؤون السياسية اليومية، وتقدم سلعا عامة "مثل استقرار الأسعار"، كما تحافظ على السلع المشتركة "مثل الاستقرار المالي" التي يمكن أن يتمتع بها الجميع، لكنها قد تنضب بفعل المستغلين. ويختلف النموذجان اختلافا كبيرا حيث يصعب غالبا التحول من أحدهما إلى الآخر. وفي اقتصادات الأسواق الصاعدة، نجد أن البنوك المركزية يتوقع منها أحيانا، حتى بعد استقلالها رسميا، أن تستمر في تقديم مجموعة كبيرة للغاية من الخدمات لمجتمعاتها "وقد يكون ذلك بناء على رغبة البنوك المركزية نفسها أحيانا". وفي الاقتصادات المتقدمة، أدى عادة تحول البنوك المركزية من كيانات تابعة إلى كيانات استئمانية مستقلة إلى إثارة تساؤلات بشأن حدود المسؤوليات، على حساب رخاء المجتمع أحيانا. فعلى سبيل المثال، في إطار سعي بنك إنجلترا خلال أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات إلى إعداد نفسه للاستقلال النقدي، امتنع طوعا عن المشاركة في تمويل الصناعات والحوكمة المؤسسية، وبعض الخدمات المصرفية غير الأساسية، وجميع الخدمات المرتبطة بتسوية الأوراق المالية، لكن في عام 1997، وبعد حصول البنك المركزي على استقلاليته أخيرا، انتقلت مسؤولية الإشراف المصرفي إلى جهة أخرى، ما أدى إلى نتائج كارثية في الأعوام التي سبقت أزمة 2007 - 2008 وخلال الأزمة أيضا. ويمكن للجميع أن يستمد دروسا من هذه الفترة التي عكست الاضطرابات الأساسية في سياق انقسام الصلاحيات بين السلطة النقدية والخزانة العامة.
مشاركة :