تتمتع البنوك المركزية في الوقت الحالي بسلطات غير مسبوقة بالطبع، أولا، دائما ما يعد الحق في طباعة النقود بمنزلة سلطة ضريبية ضمنية تتيح إعادة توزيع الموارد عبر المجتمع وبين الأجيال من خلال التضخم أو الانكماش المفاجئ. وثانيا، تضطلع البنوك المركزية بدور المقرض الأخير، ما قد يمكنها من اختيار الفائزين والخاسرين. وثالثا، تستطيع البنوك المركزية من خلال الشروط التي تضعها لعملياتها المالية "الضمانات والأطراف المقابلة وغيرها" أن تؤثر في توزيع الائتمان في الاقتصاد. ورابعا، تضطلع البنوك المركزية بالإشراف على الجهاز المصرفي، وتعد بذلك، مثلها مثل الجهات التنظيمية في المجالات الأخرى، كالمشرعين والقضاة ذوي السلطات الفعلية. وقد لا يكون من المستغرب إذن أن نرى أن رموز إدارة الأزمة الناتجة عن انهيار 2008 - 2009 هم: بن برنانكي وتیم فینٹر وجان كلود قريشيه وماريو دراجي، الذين لم يشغلوا جميعهم أي مناصب منتخبة من قبل. وكان الوضع مختلفا في السابق. فمعظم المواطنين يربطون الاستجابة العالمية للكساد الكبير بصورة الرئيس الأمريكي فرانكلين ديلانو روزفلت. لكن بعد مرور 80 عاما، لم يبادر أي من السياسيين المنتخبين بتعريف الجمهور بإجراءات إدارة الأزمة المتخذة باسمهم ولمصلحتهم. فالوضع تغير، لكن ليس إلى الأفضل. ونحن في حاجة إلى بعض المبادئ، ألا وهي المبادئ السياسية، ومن المفترض أن يرغب مؤيدو مبدأ فصل السلطات الذي يعد أساس النظام الحكومي الدستوري في الحفاظ على استقلالية البنك المركزي، وإلا فقد يستخدم الرؤساء ورؤساء الوزراء المطابع في تمويل مشاريعهم الشخصية وإثراء المؤيدين دون الحاجة إلى اللجوء إلى مجلس النواب للحصول على موافقة السلطة التشريعية وسيكون السلطويون الطامحون، سواء في معسكر اليسار أو اليمين، متيقظين لإغراءات انتزاع السلطة النقدية أو التحريض على ذلك، وينبغي أن يصدر صندوق النقد الدولي دراسة تتضمن جميع الأمثلة السابقة ذات الصلة. لكن بينما تساعد استقلالية السلطة النقدية وانعزالها عن الشؤون السياسية اليومية في دعم النظام الحكومي الدستوري، يجب بالطبع أن تفرض السلطة التشريعية قيودا على محافظي البنوك المركزية غير المنتخبين. وتعتمد الشرعية على ذلك، وهو أمر مهم للغاية، نظرا لدور الشرعية في الحفاظ على الاستقرار عندما تفشل السياسة العامة أحيانا في تلبية مطالب الشعب، وهو أمر سيحدث حتما. ويشترط لقبول شرعية أي مؤسسة حكومية اتساق تصميمها وعملياتها مع القيم السياسية الأعمق التي يؤمن بها المجتمع السياسي، وبالنسبة للنظم الديمقراطية الدستورية. يتضمن ذلك قيم الديمقراطية، وقيم الدستورية ذاتها، وقيم سيادة القانون. ولا يمكن استثناء نشاط البنك المركزي من ذلك. ويعرض كتابي بعنوان Unelected Potter مبادئ تفويض السلطات للهيئات المستقلة. ويتضمن ذلك - على سبيل المثال لا الحصر - تحديد هدف لهذه الهيئات يمكن مراقبته، وعدم اتخاذ قرارات توزيعية مؤثرة، وتشكيل لجنة لصنع القرارات يكون لكل عضو من أعضائها صوت واحد، ونشر المبادئ العملية لممارسة السلطات الاستنسابية التي تم تفويضها لهذه الهيئات، والشفافية ووضوح الرؤية أمام الرأي العام، وإمكانية التعليق الرسمي للاستقلالية، وغيرها كثير. وبالنسبة لقطاع البنوك المركزية، يمكن الاسترشاد بهذه المبادئ في صياغة الدستور النقدي - الائتماني للاقتصاد الذي يجب أن يغطي العناصر الخاصة والعامة للنظام النقدي، بما في ذلك ما يلي: - بالنسبة للسياسة النقدية: تحديد هدف اسمي واضح، وعدم منح سلطة مستقلة تتيح رفع التضخم لتخفيض مستوى الدين، حيث ينبغي أن يكون استخدام هذه السلطة مقصورا على المشرعين. - بالنسبة لعمليات الميزانية العمومية: يجب أن تكون العمليات والميزانيات العمومية بسيطة ومحدودة قدر الإمكان بما يسمح بتحقيق الهدف "الأهداف"، وينبغي أن تكون الآثار التوزيعية الرئيسة جزءا من السلطات المفوضة وألا تكون نتاجا لخيارات استنسابية. - دور المقرض الأخير: منع إقراض الشركات المفلسة أو التي لا تتمتع بالقدر اللازم من الملاءة المالية. - بالنسبة لسياسة الاستقرار "التي لا يمكن للمقرض الأخير تجنب المشاركة فيها": تكليف البنك المركزي بوضع معايير يمكن مراقبتها لقياس صمود العناصر الخاصة في النظام النقدي، بما في ذلك صيرفة الظل. - بالنسبة لسياسة السلامة الاحترازية الجزئية: إلزام جهات الوساطة المصرفية بالاحتفاظ باحتياطيات "أو أصول تسهل مبادلتها باحتياطيات"، على أن تتم زيادتها في حالة الرفع المالي، أو تحمل المخاطر، ومع زيادة التكلفة الاجتماعية التي قد تنتج عن انهيار هذه الجهات. - عدم السماح بأي استثناءات: ليس من الممكن تجاوز السلطات في حالات الطوارئ، وأي توسع مؤقت في نطاق السلطات أو أي استخدام غير معتاد لتلك السلطات يجب أن يخضع لإطار واضح يتسق مع المهام الأساسية للبنك المركزي ويتضمن مسارا للخروج. - الهيكل التنظيمي: الرئيس ليس له الحق في اتخاذ أي قرار منفردا. - المساءلة: الشفافية في جميع الأمور، حتى إن تأخر إعلانها في الحالات التي لا يصح فيها النشر الفوري. - التواصل: استخدام لغة الجمهور، بدلا من استخدام المصطلحات الاقتصادية المالية والنقدية فقط. - التقييد الذاتي: عدم تدخل البنك المركزي في أي شؤون لا تدخل في نطاق مسؤولياته المكلف بها أو لا ترتبط ارتباطا وثيقا بأهدافه المحددة بموجب القانون... يتبع.
مشاركة :