مثَّل السؤال الأخلاقي ركيزةً أساسية لكل من الدين والفلسفة على السواء، فقد عُني الفلاسفة بالإجابة عن التساؤل التأسيسي المتعلق بالأخلاق وتعريف القيم الأخلاقية بدايةً من فلاسفة اليونان الأوائل حتى فلاسفة الحداثة الغربية، وما بعدها، إلا أنه يمكن القول إن الحداثة الغربية مثَّلت حدثاً فارقاً في تاريخ فلسفة الأخلاق لما حملته من رؤية أخلاقية مناهضة لأخلاق الكهنوت الديني التي سادت في العصور الوسطى ذات المنحى الميتافيزيقي غير المعني بالأساس بنتائج الفعل الأخلاقي على حياة الفرد والذي كرس المعاناة بصبغة دينية، من هنا نشأت حالة من الاغتراب الأخلاقي بين القيمة والمنفعة. لعل التمايز بين الرؤية الفلسفية للأخلاق وبين الرؤية الدينية التي أتت على طريق الأنبياء هي أن الفلاسفة حددوا بعض فضائل النفس البشرية مثل العفة والحكمة والشجاعة والعدالة، من دون تحديد دقيق لطرائق النفس لتحقيق النجاة والسعادة؛ بل إن بعضهم اكتفى بالالتزام الوسط بين الإفراط والتفريط، أما الأنبياء فقد حملوا شرائع تؤمّن للبشرية هذه الطرق بما يضمن السعادة الدنيوية والأبدية. وقد حاولت بعض الأطروحات الأخلاقية للحداثة الغربية معالجة هذا الفصام بين القيم الأخلاقية ونتائجه الإيجابية على الفرد والمجتمع، والملحّ أن بعضها بحث عن مصدر للأخلاق خارج الدين أو في دين طبيعي، فقد شهد القرن السابع نزوع الفلسفة الإنكليزية إلي جعل الأخلاق علماً واقعياً، فنشأت المدرسة الواقعية في الأخلاق تستلهم مناهجها من البحث التجريبي الذي صاغه فرنسيس بيكون (حلقة الوصل بين العصر الوسيط والفكر الحديث)، وتمثل هذا الاتجاه الحديث في مذهب توماس هوبز الذي تأثر بما يقال عنه (قوانين الطبيعة). قيل أن الناس من غير استرشاد إلهي توصلوا إلى قوانين تحرم الضرر عنهم وهذه القوانين الأزلية تجملها القاعدة البسيطة (لا تعامل الناس بما لا تحب أن يعاملوك). هذه النزعة الوضعية في الأخلاق تبلورت في القرن التاسع عشر علي يد بنتام وجون استورت مل، وفي القرن العشرين تجلت في أميركا كنمط جديد من الفلسفة العملية تأثر بمذهب المنفعة العامة لدي الانكليز، تمثلت في الفلسفة البرغماتية الذي كان من أهم روادها وليم جيمس والذي كان شديد الإعجاب بجون ستيورت مل حتى أنه أهدى كتابه (البراغماتية) إلى ذكرى مل. إلا أن ثمة تمايزاً بين الوضعية التقليدية والفلسفة البراغماتية، فإذا كانت الأولى ترفض التسليم بالحقائق المطلقة فإن البراغماتية لا تترد في قبولها، متى كانت مفضيةً إلى نفع يتحقق في حياة الإنسان، فقد كان وليم جيمس يميل إلى التدين وبرر التدين تبريراً فلسفياً سيكولوجياً، فحرص على أن يثبت أن الإيمان بالله واعتناق الدين حق لأنه يتحول عند المؤمن إلى سلوك ناجح في حياته يساعده على احتمال الكوارث ويجعله أقدر على العمل، بعكس الإلحاد الذي إذا نزلت بصاحبه كارثة قد تدفعه إلى الانتحار. وقد حظي السؤال الأخلاقي باعتناء فلاسفة وعلماء الإسلام وقد تجلى ذلك من خلال ميدانين رئيسيْن، الأول الفلسفة والذي اقتصر في أكثر الأحوال على الدراسة النظرية العقلية متأثراً بالفلسفة اليونانية والموروث الفارسي، أما الميدان الثاني فهو الزهد والتصوف والذي اهتم بالدراسة الروحية والنفسية للناس. بيد أنه مع بداية الدعوة الإسلامية لم يكن للأخلاق علم خاص لكونها كانت ثقافة حياتية يستقيها الناس من الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد دخول بعض المؤثرات الخارجية على الفكر الإسلامي ونشوب صراعات سياسية وتسرب وسائل الرفاهية في الحياة الاجتماعية، نشأ للأخلاق مجال خاص لم يكن معهوداً قبل ذلك، نظراً لوجود درجة كبيرة من التماثل بين القيمة الأخلاقية والممارسة السلوكية في التجربة الأولى. لذلك أدرك العلماء أن هناك حاجةً إلى علم يسعى لضبط الواقع الاجتماعي، من طريق إعادة إنتاج القيم وضخها من جديد في صورة علم يُعنى بسلوك الفرد مع الله والنفس والناس، سُميَّ بعلم التصوف الذي يقول عنه ابن القيم «واجتمعت كلمة الناطقين على هذا العلم أن التصوف هو الخلق». ففلسفة الأخلاق في الإسلام قد نبتت في ظل التصوف، الذي مثل أحد المداخل النفسية للتعاطي مع الظاهرة الأخلاقية، فالقلب بما يحمل من مشاعر ومعان روحية وجدانية وهو محل اعتناء المتصوفة، فهو وعاء الإيمان بالله وموطن الأخلاق وموجة السلوك، وذلك من خلال ثلاثة مسارات رئيسة، هي التخلي والتحلي والتجلي. إلا أن تلك الحياة الروحية لم تطرح كبديل عن السعادة، بل هي ذاتها مسلك لتحققها، فقد وضعت الصوفية السعادة في قمة الحياة الروحية التي عاشوها ورأوا أنها تتحقق باتصال السالك بربه من طريق حبه، وبالمجاهدة التي ترفع حجب الحس القائمة بين العبد وربه. وفي كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) للإمام العز بن عبدالسلام تناول ما يسمى أخلاق المنفعة، والذي تميز باستشهاده بالقرآن والسنة، متجاهلاً الموروث الفارسي واليوناني اللذين كانا مصدرين لبعض فلاسفة الأخلاق في الإسلام، فقد تناول الأخلاق في إطار فقه المصالح والمقاصد، فالمصلحة هي المنطلق، بل الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق، فالغاية عند العز بن عبدالسلام هي العمل الصالح أو بتعبير الأدبيات الفقيه (جلب المنافع ودرء المفاسد) كمطلب شرعي محمود وحسن، فزاوية النظر لأفعال الإنسان هي المصالح والمفاسد سواء كانت تخص الدنيا أو الدنيا والآخرة معاً ويرسم ابن عبدالسلام خارطة طريق للأخلاق، من طريق النظر إلى الفعل الأخلاقي بوصفه إحساناً، فالإحسان من منظوره لا يعني فقط فعل الخير، بل فعل كل ما هو مباح أو مندوب أو مأمور على الوجه الأحسن. ويبدو أن المنحى الذي تبناه العز بن عبدالسلام الذي اختلف عن التناول النظري للأخلاق يتسق في أحد الأوجه العملية من الفلسفة البراغماتية، الذي رأى التحدي في كيفية إنتاج الفعل الأخــلاقي على المستــوى العملي، لأن الإدراك العـــقلي لا يــكفي بــل يــحتاج دوماً إلى آليــات تـجعل للفـعل قيمةً حقـيـقـة ملموسة. فحقيقة الفعل وثمرته هي مدار تفكير كل من العز بن عبدالسلام ووليم جيمس في هذا السياق، على أساس أن الأفكار تُحقق بالعمل والملاءمة والإفادة والصدق، فالحقيقة هي إنتاج الشروط والظروف التي تلائم الواقع والمنطق العقلي، فهي طريقة استخدام الأفكار، بداية من العمليات العقلية كالفهم وبناء تصورات ذهنية، ثم الشعور الوجداني الذي ينشئ الإيمان بالمعتقد أو الفكر وأخيراً تقرير أدوات للعمل والأداء.
مشاركة :