يعيش العالم العربي والإسلامي مرحلة من أخطر مراحل تاريخه الحديث ليس بسبب الإرهاب فقط، ولكن عوامل كثيرة اقتصادية وثقافية وسياسية واجتماعية جعلته يعيش تحديات كثيرة ومصاعب كبيرة غير مسبوقة، وما يمر به العالم الإسلامي مرّت به دول كثيرة منها أوروبا التي عاشت قروناً من الحروب الطائفية والقومية شبيهة بما يمر به العالم الإسلامي، لكنها رزقت بمفكرين وفلاسفة شخصوا الداء ووصفوا الدواء فسعت إلى تنفيذها رغم المعارضة الشديدة، واقتنعت أن السبيل إلى الاستقرار والعيش بسلام في الداخل ومع الدول المجاورة هو الدولة المدنية المبنية على احترام الإنسان وحريته وكرامته وجعل الوطن هو البوتقة التي تضم جميع الأطياف، فقامت بتحييد دور الكنيسة وحصرها في عملها الأساسي وهو الاهتمام بدور العبادة وترسيخ القيم وتعزيز الأخلاق والحث على تماسك الأسرة والمجتمع. كما عاشت اليابان في حروب دامية مع جيرانها وسيطر العسكريون على الإمبراطور والسلطة والشعب إلى أن هزمت البلاد في الحرب العالمية الثانية بعدها بدأ النقد الذاتي الجاد وبحث العلماء المختصون عن الأسباب الحقيقية لهذه النزعة العدائية تجاه الغير فقامت بإبعاد العسكريين عن السلطة، لكن ذلك استغرق أكثر من عشرين عاماً تعلمت خلاله درساً لن تنساه، لقد تعلم اليابانيون قيمة النقد الذاتي المطلوب لكل التحديات قبل البدء بالحلول، كان من الممكن لليابان أن ترمي بمصاعبها وهزائمها على قوى خارجية ومؤامرات دولية، وهذا قد يعطي قناعة ورضا في الداخل، لكنه لا يصنع حاضراً ولا مستقبلاً، فلو لم تشخص اليابان الأسباب الحقيقية لهزيمتها لبقي العسكر في السلطة يمارسون القمع العسكري ومصادرة الحريات وانتشار الفساد واستمرار الحروب مع الجيران. قدر المملكة أن تكون في قلب العالم الإسلامي لمكانتها الروحية وقوتها الاقتصادية والسياسية، فهي القدوة وهي مركز الثقل، ولهذا أخذت زمام المبادرة لكبح جماح داء هذا العصر وهو الإرهاب فشكلت حلفاً إسلامياً عسكرياً لمحاربته ومقره الرياض هدفه دعم وتنسيق الجهود لمحاربة الإرهاب بشتى أنواعه وباستخدام جميع الوسائل الممكنة ومنها الفكرية والإعلامية، فالفكر هو الحاضن الحقيقي للإرهاب وما يصدر عنه من تصرفات مدفوعة بالكره للآخر أو الطموح لتأسيس دولة يرى قادة الإرهاب أنها الدولة النموذجية التي من خلالها ينفذون برامجهم ويجندون أتباعهم. والمملكة هي الأقدر على محاربة الفكر الحاضن للإرهاب لمكانتها الروحية وما تضطلع به من أعباء كثيرة ومسؤوليات جسيمة مما يحتم عليها القيام بالخطوات الآتية: أولاً. وضع خطة استراتيجية تمتد للعشرين سنة القادمة وتنفذ بكل دقة وحزم، توضع فيها الرؤية المستقبلية لما يجب أن تكون عليه المملكة، ويحدد خلالها أهم التحديات ومنها الإرهاب والمخدرات والفقر والبطالة والمرض، ومن ثم توضع الحلول اللازمة وتكتب الأهداف المطلوب تحقيقها. ومن هذه الخطة الرئيسة تستقى كل الخطط الاستراتيجية الخاصة بكل وزارة وهيئة، لتتوحد الجهود وتحقق الرؤية، هذه الخطة يجب أن تضع في فرضياتها جذور الإرهاب ومسبباته من جميع الجوانب. ثانياً. التعليم هو أفضل أداة لتحقيق رؤية العشرين سنة القادمة فعلى مقاعد الدراسة يجلس أباء وأمهات المستقبل وأساتذته ومعلموه وأطباؤه وقضاته، وتعليمنا الحالي لا يواكب تطلعات قادة المملكة وطموحاتهم فهو يعيش في معزل عن الحاضر، يهتم بالماضي وأخباره بدل استشراف المستقبل ومتطلباته، ففي التعليم كل الحلول لأكثر التحديات التي نعيشها أو نتوقع حدوثها بعد عشرين عاماً من الآن، لذا يجب أن نبدأ في علاجها من على مقاعد الدراسة، فالإرهاب والجريمة والمخدرات والتحديات الصحية ستبقى سنين طويلة ما لم ننشئ جيلاً مختلفاً عن جيلنا الحاضر. وقد خطت القيادة الحكيمة خطوة جريئة وموفقة في تعيين وزير تعليم يجمع بين التخصص والرؤية والممارسة، لكنه بحاجة إلى دعم سياسي ومالي وحريّة في اتخاذ ما يراه لإصلاح التعليم بعيداً عن أنصاف الحلول، فإصلاح التعليم لا يقبل التجزئة ولا يستقيم مع وضع الخطوط الحمراء خصوصاً ممن هم خارج التعليم، عدا ما تفرضه المصلحة الوطنية، مع التركيز على حسن اختيار مدير المدرسة والمعلم والتدريب على رأس العمل، والاهتمام بالطالب من حيث تنمية المواهب والمهارات والسلوك وتنمية الحس النقدي وحرية طرح الأسئلة. ثالثاً. الاقتصاد القوي هو الأداة التي تمكن المملكة من تحقيق طموحاتها وخططها بعيدة المدى، والعالم المتقدم في سباق لامتلاك التقنية من خلال جامعاته ومراكز أبحاثه، وهو في طريقه إلى التحول للطاقة النظيفة ويستثمر في سبيل ذلك المبالغ الطائلة مما يعني أن السبيل إلى تنويع مصادر الدخل هو في قوة مخرجات الجامعات والأبحاث والتطوير والاهتمام بالبيئة والرقي بالخدمات، مع التركيز على إنشاء الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تديرها الأسر وتحارب الفقر، والشركات الكبيرة التي توظف وتدرب مع مساعدتها للتركيز على جودة المنتج والتصدير، والاهتمام بالسياحة وخصوصاً السياحة الدينية التي لا ينافس المملكة عليها أحد. ومن أهم مقومات الاقتصاد القوي هو حسن اختيار القادة في القطاعين العام والخاص، ومكافحة الفساد المالي والإداري على كل المستويات. رابعاً. الوقت يمضي سريعاً والأعباء والمتطلبات تزداد مع زيادة السكان وكثرة الالتزامات، والمملكة لا تنقصها الخطط ولا الدراسات ولا المنتديات الاقتصادية، لكنها بحاجة إلى وضع الخطط والاستراتيجيات موضع التنفيذ، فمنذ بداية الخطط الخمسية ونحن نضع أهدافاً جميلة تركز على تنويع مصادر الدخل والرقي بالخدمات ومحاربة البطالة لكن عدم التنفيذ وقلة المتابعة أجهض تلك الخطط الجميلة وأبقاها حبيسة الأدراج. عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان جمع بين الخبرة والشجاعة في اتخاذ القرار، ولا شيء كخبرة الكبار وعزيمة الشباب وإصرارهم، وما نراه من حراك على أكثر من مستوى يؤيد ذلك.
مشاركة :