أعمل محللاً سياسياً في الولايات المتحدة بصفة يومية، ولكني أعمل لصحيفة بريطانية، وهذا يعني أن إحدى عيني تُراقب ما يحدث في واشنطن. بينما الأخرى منصبة على مقر الحكومة البريطانية، ومجلس العموم في «وستمنستر»، وما شاهدته يجري الأسبوع الماضي، لا يمكنني وصفه بأقل من أنه مُدهش. إنها خواطر تتداعى على ذهني، على هامش السقوط المتسارع لرئيس الوزراء البريطاني المستقيل، بوريس جونسون. منذ ما يزيد على عامين، شاهدت في واشنطن كيف حاول أعضاء الحزب الجمهوري في مجلس النواب، ثم مجلس الشيوخ الأمريكي، بكل جهودهم، منع إقالة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، والذي كان لا يزال رئيساً للولايات المتحدة آنذاك، من منصبه، بسبب الادعاء بأنه حاول استغلال نفوذه بالضغط على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وإقناعه بتوجيه اتهام رسمي إلى الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، والذي كان لا يزال مرشحاً رئاسياً مُنافساً لترامب آنذاك، وابنه هانتر، بارتكاب مخالفات مالية جسيمة في أوكرانيا، وإلا فإن الولايات المتحدة ستمنع عن أوكرانيا بعض المساعدات. وكانت محاولات أعضاء الحزب الجمهوري في المجلسين، تعني ضمنياً أن الادعاء ضد ترامب صحيح. وبعد ذلك بعام، تكرر الأمر ذاته، والمحاولات نفسها، من جانب الأعضاء الجمهوريين في منع عزل ترامب، بسبب أحداث «الكابيتول»، التي وقعت في السادس من يناير 2021، عندما اقتحم عدد من أنصار ترامب المسلحين، مقر «الكابيتول»، وتسببوا في سقوط قتلى، احتجاجاً على نتائج الانتخابات، والتي انتهت بهزيمة ترامب أمام بايدن، بحجة أن النتائج قد شابها تلاعب، وأن ترامب هو الفائز الحقيقي في الانتخابات. إن الاعتقاد بأن الأعضاء الجمهوريين سيتخلون عن زعيمهم المعروف بأفكاره وتوجهاته السياسية الشعبوية، هو ضرب من ضروب الخيال، ولكن على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، وتحديداً في بريطانيا، فإن الوضع مُختلف تماماً. فلقد رأينا في الأسبوع الماضي، أكثر من 55 عضواً مؤثراً عن حزب المحافظين في مجلس العموم، لا يشعرون بأي وخز أو تأنيب ضمير، وهم يطالبون رئيس الوزراء البريطاني المنتمي إلى نفس حزبهم، بوريس جونسون، بالاستقالة، حتى تقدم بها بالفعل. فمن كان يوماً يتصور أن يحدث ذلك؟ من خلال خبرتي كمراسل صحافي في واشنطن منذ فترة طويلة، أستطيع القول، وبكل ثقة، إن الدراما السياسية التي تحدث في «وستمنستر»، تبدو شاحبة، وبلا مذاق، إذا ما قورنت نظيرتها التي تشهدها واشنطن، إلا أن الدراما التي شهدتها أروقة مجلس العموم خلال الأسبوع الماضي، لا يجوز وصفها إلا بأنها مُدهشة. كانت مشاهدة جونسون وهو يتلقى اللوم والاتهامات من الجميع، حتى من أعضاء حزبه، قبل الحزب المنافس، داخل مجلس العموم، ثم مشاهد وزير الصحة المستقيل في حكومته، وأحد أبرز رجال حزبه، ساجد جاويد، وهو يعُلن استقالته، متضمنة انتقادات نارية، ثم استقالة وزير المالية المحافظ أيضاً، ريشي سوناك، ثم مشاهدة الأعضاء المحافظين داخل المجلس، وهم شبه مُجمعين على مُطالبة جونسون، المنتمي إلى نفس حزبهم، بمغادرة «10، شارع داونينغ»، كلها موحية بحقيقة واحدة، وهي أن المنظومة السياسية البريطانية، لا تخضع للتلاعبات وتوازنات القوة باسم الالتزام الحزبي، كما هو الحال في نظيرتها الأمريكية، وإلا لما شاهدنا المحافظين البريطانيين، وهم يضغطون على رئيسهم المُنتمي إلى نفس حزبهم، كي يستقيل، وببساطة وسهولة، من الصعب تصور أن يتحلى بها أبناء عمومتهم الجمهوريون الأمريكيون. قد يتعلق الأمر باختلافات جوهرية في طبيعة وتركيب المنظومة السياسية بين البلدين. ففي بريطانيا، تضطلع الأحزاب بالدور الرئيس في اختيار المسؤول الذي سيمثلها في الانتخابات العامة. ويعني ذلك ببساطة شديدة، أن طبيعة المنظومة تتيح لأعضاء كل حزب، التخلص من أي مسؤول ينتمي إلى نفس الحزب، حتى وإن كان رئيس الوزراء نفسه، إذا ما بدا لهم في أي وقت، أنه خرج عن السياق، أو عن الخط العام للحزب، وهو ما حدث تحديداً مع جونسون. وعلاوة على ما سبق، فكون رئيس الوزراء البريطاني وأعضاء حكومته، يُختارون من بين أعضاء مجلس العموم، فإن هذا يجعل محاسبتهم أمام أعضاء حزبهم، أمراً أكثر بساطة وسهولة. وعلى الجانب الآخر، في واشنطن، يتيح التعديل رقم 25 في الدستور الأمريكي لأعضاء الكونغرس، نظرياً، عزل الرئيس الأمريكي من منصبه، ولكن نجاة ترامب من العزل مرتين في غضون أقل من عام، تثبت أن الحديث عن هذا الحق النظري، أسهل كثيراً من تطبيقه أمام أرض الواقع، ذلك أنه ينهزم أمام مبدأ الالتزام الحزبي. وفي الختام، أتذكر مقولة تاريخية شهيرة، قالها الملك جورج الثالث، عندما استقبل جون أدامز، أول سفير أمريكي لدى بريطانيا، عندما قال له: «أُصلي إلى الله يا سيد. آدامز، ألا تُعاني الولايات المتحدة أكثر من اللازم، بسبب كونها ليست مملكة». إنها عُبارة قالها الملك، الذي عُرف في التاريخ باسم «الملك المجنون»، لكنها تؤكد أنه لم يكن مجنوناً. طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :