نحن قلنا له ارحل بكل كرامة، هندسنا له أفضل شكل للخروج من السلطة، مع الاحتفاظ بالثروة والوجاهة. لكنه للأسف تصرف بطريقة لا تنم عن ذكاء ولا دهاء. الداهية الحقيقي يموت بعد عمر طويل في منتجع فاخر، وحوله أقاربه، وبلاده في أمن واستقرار، لكنه لم يكن ذكياً بقدر ما كان حوله من يغذيه بهذا الوهم، ولذلك ما إن فقد السلطة حتى فقد الذكاء، وتحول من رئيس سابق وأحد أثرياء العالم، إلى زعيم يقود مليشيا بلا شرعية. وجنى بهذا على نفسه أولاً، وعلى عائلته ثانياً، أما الشعب، فهو يجني عليه منذ الأزل، منذ أن أساء استخدام السلطة والثروة وما ترتب على هاتين الجريمتين من آلام ومآس، مع أنه حصل على فرصة تاريخية للخلود كمؤسس للدولة الحديثة والمجتمع الحديث، فلم يسبق في تاريخ اليمن المنظور أن حصل رجل على كل ما حصل عليه صالح من سلطة قانونية وتقدير اجتماعي وإجماع شعبي يؤهله لقيادة تحولات في مسار الدولة والمجتمع، لكنه تصرف بطريقة بدائية فشغل الناس بالجماعات الدينية بدلاً من أن يشغلهم بالشركات، وخلق شريحة جديدة من المشائخ العاطلين عن العمل، بدلاً من أن يخلق شريحة مدراء الشركات على سبيل المثال، ولذلك فلدينا آلاف من الطلبة اليمنيين، ابتعثتهم الدولة إلى الخارج، ولم يعودوا، وآلاف آخرون عادوا ولكن بشروط منظومة الفساد التي خلقها ويديرها ويتعايش معها، ولنكن واقعيين ولنقل إن "شبكة" الفساد ليست أداة سهلة الاستخدام، ولا يمكن الاستغناء عنها، فهي إما أن تعمل بكل قدرتها، أو تموت، فإن لم تقتلها تماماً فإنها ستقتلك بكل سهولة وتواصل حياتها بعيداً عنك. وكذلك الأمر مع مؤسسات الدولة والقانون، أنت من توجدها وتخلق قوانينها، ثم عليك احترام هذه القوانين، وإلا فإنها تسحقك بكل سهولة مهما كان دورك عظيماً ومهماً في صناعتها. ماذا حدث مع علي عبدالله صالح؟ وكيف انسحق مرتين، مرة بمؤسسات الدولة، ومرة بشبكة الفساد؟ حاول أن يبني مؤسستين إلى جوار بعضهما، واحدة مؤسسات دولة، والثانية شبكة فساد تفرغ مؤسسات الدولة من معناها، وهذه عملية شديدة الخطورة لا يمكن أن تتحكم بها إلا وأنت ممسك للسلطة الشرعية في مؤسسات الدولة التي تدير من خلالها شبكة الفساد، ولا يحدث ذلك إلا لوقت قصير في حياة الشعوب ثم تتفكك المنظومة، وتتباين مكوناتها العصية على الاختلاط. صالح تمكن من خلق الشبكة والمؤسسة، لكن المؤسسة سحقته مع أخطر خطأ، حين أخطأ في التعامل معها وحاول تعديل الدستور في وقت غير مناسب، فسحقت المؤسسات سلطته، الأحزاب، ومجلس النواب، والحكومة، والجامعات، والجمعيات، ووحدات الجيش، كلها سحقته، فانصاع للحقيقة، وظن أن بإمكانه أن يتخلى مؤقتاً عن السلطة الشرعية ويظل ممسكاً بإدارة شبكة الفساد، وهي شبكة مرتبطة ارتباطاً كبيراً بشكل مؤسسات الدولة، ومن خلالها يعود إلى السلطة، والحقيقة أنها طريق باتجاه واحد، لا عودة منه، وحين تحاول كسر هذه القاعدة فإنها تقسو عليك، يمكن من خلال السلطة الشرعية خلق شبكة فساد، ولكن لا يمكن خلق سلطة شرعية من خلال شبكة الفساد، كما لا يمكن تفكيك هذه الشبكة بمجرد تقرير ذلك، أو تكليف هذه الشبكة بإصلاح ما دمرت أو بالتوقف عن أداء دورها الطبيعي، وكان هذا آخر أخطاء صالح، فقد أراد تحويل شبكة الفساد إلى جبهة مقاومة، وظن أنها يمكن أن تستجيب لندائه لمجرد أنه من خلقها وأنشأها، ناسياً أن القواعد يجب أن تحترم، ما خلق كشبكة فساد يجب أن يعامل كشبكة فساد، فإن كلفته بغير مقتضى طبيعته، عصاك. فلا تتمكن حين ذاك من إصلاح أي خطأ أو التخلي عن استخدام الآلة، فأنت لم تعد مستخدماً، بل أصبحت جزءاً من الآلة، إذا لم تؤد دورك الطبيعي فيها، فإنها تدمرك، وتملأ فراغك بما يناسبها. شبكة الفساد لا يمكن تحويلها لجبهة مقاومة، المشايخ والضباط الذين قضوا حياتهم في بيع ذممهم والتجارة بأصدقائهم وأعراضهم، وامتلأت كروشهم بالمال الحرام، لا يمكن أن يتحولوا في لحظة إلى مقاومين لمجرد أن الزعيم أمرهم بهذا التحول. ماهو موقع الحوثيين من هذا؟ الحوثيون جزء من شبكة الفساد، التي ظن صالح أنها ستعيده إلى السلطة، هي الآن تحكم جزءاً كبيراً من البلد كشبكة فساد، فاقدة للشرعية بطبيعة الحال، ولا يمكنها بحكم تكوينها التحول إلى سلطة شرعية. وحين يبدو المشهد معقداً فهو تعقيد طبيعي، ناتج عن أربعة عقود من إساءة استخدام السلطة والثروة. وتبدو جنازة صالح كما لو كانت جنازة لكل اليمنيين، لكل ضحاياه الذين قتلهم، بل ولكل ضحاياه الذين قتلوه. وحين يظهر علينا الحزن لمشهد جثمانه، فهو حزن شديد الكثافة، لا يمكن تفسيره ولا تبريره من جانبنا، كما لا يمكن الدفاع عنه في وجه من يبدون الشماتة والتشفي، إنه حزن إنساني ليس بحاجة إلى تفهم، ولا ينفي عنا صفة الضحايا، كما أنه لا يجردنا من تاريخنا في النضال ضد طريقته في إدارة البلاد، وليس من حق أحد أياً كان أن يحرمنا من حقنا في إبداء المشاعر، مشاعر هذا الحزن العظيم، حزننا ونحن ننظر إلى جنازاتنا وجنازات أحبتنا جميعاً في جثمان واحد، يحمل جروحاً مرئية ومستورة، ويحمله رجال يلعبون بالبارود ويفتحون باباً جديداً للمآسي والآلام. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :