لقد استطاع المؤرِّخ ابن خلدون أن يبحث عن الحقيقة التي يسعى إليها (في علم التاريخ) فوجدها بين الأنقاض، وقد تراكم عليها كثير من غبار الزمن والحقد الشخصي، والدافع المادي والمصلحة الخاصة، أي، باختصار وجد أن الحقيقة التاريخية مظلومة محجوبة، ووجد الساعين إليها كثيرًا، ولكن الطريق شاق وشائك، فوجد نفسه مسؤولة عن تخليص تلك الحقيقة من شوائبها، ورسم الطريق الصحيح السليم الواضح المؤدي إليها ليرتادها كل مخلص، وليتجنب مخاوفها ومخاطرها كل مريد للحقيقة لذاتها. ومن هنا كان عمل ابن خلدون شاقاً متعباً، لأنه عمل من يكتشف الطريق ويتحمل مسؤولية مخاطرها، ووعورة مسالكها، ولأنه لم يكتف باكتشاف الطريق، بل تحمل مسؤولية التعبير والقيادة والريادة، فكانت مهمته مهمات في مهمة، ومن هنا كانت صعوبة البحث عن الحقيقة عنده، وإذا ما أضفنا إلى تلك العقبات، ضريبة العبقرية هذه، بسبق زمانه وعصره، فيما يفتش عليه ويسعى للوصول إليه، واكتشاف الطرق ووضع القواعد والقوانين، واستنباط علوم جديدة ترتبط بالحقيقة عنده - بل هي الأنوار التي تظل مسلطة على دروب الحقيقة تنيرها، وبدونها تعتم الطّريق ويضل السّالك. ولم تتضح قيمة تلك الأضواء الكاشفة إلا بعد تقدم العلم كثيراً، وتأخر الزمان عن زمن ابن خلدون كثيراً - عندها استطعنا بعد فضل الله أن نقدر ذلك الجهد حقه، في السير على درب الحقيقة التاريخية. فما قيمة التاريخ وما مدى ارتباطه بنا؟ إن هذا الميدان التاريخي هو الذي يربطنا بالماضي، لما لذلك الارتباط بالماضي من أثر في الانتماء، ومعرفة الأحوال والأحداث، ومجريات الأمور وتطورها، والمقدمات المؤدية إلى النتائج. فالأمة التي ليس لها ماض، ليس لها حاضر أو مستقبل، أو هي التي تضرب في المجهول لتستقر على هوية تميزها، والأمة التي لا تلتفت إلى ماضيها أمة ضائعة الحاضر غامضة المستقبل، تتلمس مواطن خطاها على غير حقيقة، كالأمة التي ليس لها ماض تضطرب ابتداء، وتظل الحقيقة بعيداً عن واقعها. فالتاريخ هو الذي يجلو لنا الحاضر، وينير ظلماته وزواياه، قياساً على الماضي، واختصاراً للوقت في تجربة الخطأ والصواب، وهو الذي يدفعنا إلى المستقبل، بإحياء الأمل، وبما يعطينا من عزة التفوق، ويجنبنا من مخاطر الزلل. وهو أكثر العلوم الاجتماعية والإنسانية ارتباطاً بحياة الأفراد والأمم، وهو من أكثرها حاجة للدراسة الموضوعية والبحث العلمي السليم، وكلما كان البحث العلمي فيه سليماً، ساعدنا ذلك على أن نعي جذورنا وأنفسنا وعياً حقيقياً، فنكيف الوعي بحسب مقتضياتنا وحاجاتنا وإمكاناتنا. ولا نستطيع الوصول إلى ذلك إلا بالوصول إلى حقيقة تاريخنا، تلك الحقيقة التي نفسر بها تغير الأحداث عبر الزمن، فنعرف مواطن حقيقة ما نحن فيه، واستمرارية هذا الزمن وهذه الأحداث أو المنحنيات التي تطرأ عليها، ونعلل الأسباب، ونصل النتائج الحقيقة الصحيحة السليمة. فإن مهمة المؤرخ: رفع السحب عن ماضي الإنسان، ووصف حقيقة حياة الناس في كل صورها وأشكالها وتتبع تطورها والتاريخ إذن ذاكرة الشعوب والأمم وكما أن الذاكرة هي التي تحفظ للوجود وحدته، وتجعل حياة الفرد تبدو متماسكة ملتحمة الأسباب، فكذلك يمكن أن نعد التاريخ ذاكرة الشعوب والأمم التي تحفظ لها وحدتها، وتختزن فيها حوادث ماضيها وآمالها في الحاضر والمستقبل، فالأمة التي فقدت تاريخها أشبه بالإنسان الذي فقد ذاكرته، فهو ضائع لا يدري له أصلاً، وحائر لا يعرف له مستقراً. فكما أن الذاكرة تحفظ شخصية الإنسان، فكذلك الحقيقة في التاريخ هي وراء البحث وتماسكه. وإن هدف التاريخ:- هو البحث عن الحقيقة - كل الحقيقة - وإذا لم تكن هذه الحقيقة معاصرة لنا، بادية أمام أعيننا، فإنها على كل حال حقيقة من حقائقنا التي لا غنى لنا عن البحث عنها، فالإنسان كما يهمه البحث عن الحقيقة، كذلك قد يميل إلى الطعن بهذه الحقيقة عن عمد، أو عن غير عمد. وقال البعض - الأصل في التاريخ الاتهام لإبراءة الذمة، وقالوا كذلك: المؤرخ رائد حكمته. ولا شك أن الإنسان له مسوغاته في هذا التشاؤم، لأن المرء كما يهمه البحث عن الحقيقة متعمد أو غير متعمد - وكذلك رأينا (ابن خلدون) يدعو إلى التثبت، مشدداً على تحري الحقيقة، وذلك للوصول إلى الصدق. وعبدالرحمن ابن خلدون محق في ذلك، لأن الخيال الجامح، أحياناً قد يدفع الإنسان إلى فقدان الحقائق، وقد تمتزج الأساطير والتخمينات بالأحداث الصحيحة. علماً أن التاريخ الصحيح هو مادة وأسلوب أي معرفة ومنهجية. والمنهجية هي الوسيلة والأسلوب العلمي، وذلك للبحث عن الحقيقة والوصول إليها فقد حدد ابن خلدون التاريخ بقوله (أما بعد، فإن في التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وهو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدّول، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات في ميادينها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق). ولذا اتضح لابن خلدون أن بواعث الخطأ في كتابة التاريخ تندرج في النقاط التالية:- 1- توهم الصدق فيما نقله الأقدمون من حقائق تاريخية. 2- الكثير من الناقلين لا يعرفون القصد مما عاين أو سمع. 3- الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع ومراعاة الظروف المحيطة بها. 4- حيث إن النفوس البشرية مولعة بحب الثناء والمديح والناس متطلعون إلى الدنيا راغبين فيها. 5- التشيع للآراء والمذاهب. 6- تمييز الصدق من الكذب وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض. 7- كثيرًا ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثر عنهم. فهذه بعض من الملاحظات التي أوردها المؤرخ العملاق عبدالرحمن ابن خلدون حول التجني على الحقيقة التاريخية ومجانبتها. والله الموفق والمعين...
مشاركة :