«ابن خلدون» للحبابي: ترفيع المؤرخ إلى رتبة فيلسوف

  • 12/15/2016
  • 00:00
  • 30
  • 0
  • 0
news-picture

في نهاية سنوات الستين، لم يكن ابن خلدون يحظى بالشهرة والمكانة الفكرية والعالمية التي يحظى بها اليوم. ومن هنا، حين صدر كتاب المفكر المغربي محمد عزيز الحبابي، التعريفي في جانبه الأساسي والتحليلي في جانب منه، عن ابن خلدون في سلسلة منشورات «سيغيرز» الفرنسية المعنونة «فلاسفة كل الأزمان»، لم يعلق كثر بشكل واضح على ذلك الإدراج لكبير المؤرخين العرب وأحد أبرز مؤسسي علم العمران في خانة الفلاسفة، هو الذي إن كان له باع ما في علم الكلام أو الفقه فإن من الصعب اعتباره فيلسوفاً. لم يكن أحد قبل الحبابي قد فعلها، وقلة فقط سوف تحذو حذو مفكر «الشخصانية الإسلامية» فتفلسف صاحب المقدمة بين الحين والآخر بمقدار ضئيل من الإقناع. كان من الواضح أن الحبابي يتوخى من كتابه المبكر ذاك «تكريم» سلفه العربي المسلم الكبير وتعريف العالم الغربي به ولو على حساب التصنيف العلمي الذي كان الاثنان، على أي حال، من المؤمنين به. ولكن لاحقاً، وبعدما تعرف العالم الفكري الغربي إلى ابن خلدون وصارت له تلك «الشعبية» التي تمتع بها، وبخاصة في السبعينات والثمانينات، حيث تتابعت الدراسات عنه وصارت له مكانة مميزة في النصوص الغربية بين فيغو وأوغست كونت، وحتى كارل ماركس، بدأ السؤال يُطرح حول كونه فيلسوفاً أو لا، بل إن السؤال توسع في بعض الحلقات ليشمل الحبابي نفسه: هل يمكن اعتباره هو الآخر فيلسوفاً... في أغلب الأحيان كانت النتيجة سلبية، بمعنى أن كلاً من العالمين المغربيين ليس فيلسوفاً لكنه مفكر كبير في مجاله. > بيد أن تلك «النتيجة» لم تقلل من قيمة الحبابي ولا طبعاً من أهمية ابن خلدون ولا حتى من قيمة كتاب الأول عن الثاني، بل قيل دائماً إن معالجة الحبابي لحياة ابن خلدون ولارتباط حياته بكتاباته ولدور المثقف في السلطة وكل تلك التجديدات التي أدخلها في علمي العمران والتاريخ، تبدو في الأحوال كافة من أكثر المعالجات إنصافاً وصواباً، وأن الحبابي باشتغاله المبكر على ابن خلدون، باللغة الفرنسية طبعاً، فتح أعيناً كثيرة على تراث هذا الأخير ولا سيما على أسلوبه الثري في «المقدمة» ونقده اللامع لما كانت عليه كتابة التاريخ من قبله، وصولاً حتى إلى مساهمته في إضفاء رونق جديد على كتابة السيرة الذاتية، من خلال كتابه «التعريف بابن خلدون». كل هذا أتى في ذلك الحين ليموضع ابن خلدون في سياق التجديد الذي كانت بواكيره تظهر بالنسبة إلى الاهتمام به، وفي سياق شهد على الأقل ظهور كتابين آخرين فرنسيين عن ابن خلدون ينظران إليه من موقعين أيديولوجيين ربما يتكاملان مع الموقع «الشخصاني» الذي نظر إليه منه الحبابي: واحد لجورج لابيكا من موقع ماركسي تقليدي وآخر لإيف لاكوست من موقع «عالمثالثي». والحال أن هذا كله شفع للحبابي في ذلك الترفيع الذي مارسه، ناقلاً المؤرخ إلى مرتبة الفيلسوف، وهو ترفيع لم يعد أحد يجاريه فيه وإن كان الجميع يجارونه، وبحماس، في تقييم ابن خلدون تقييماً عالياً، ليس على الصعيد الإسلامي- العربي وحسب، بل على الصعيد الإنساني الشامل أيضاً. وبصرف النظر عن اهتمامه هذا بابن خلدون، يمكن القول إن ما من فيلسوف أو مفكر عربي معاصر أثار من سوء الفهم ما أثاره الحبابي، الذي رحل عن عالمنا في العام 1992 ففقد المغرب والفلسفة العربية برحيله واحداً من أخصب المفكرين وأكثرهم صواباً، وفق تعبير العديد من الذين عرفوا الحبابي واطلعوا على كتاباته وأفكاره. أما سوء الفهم المشار إليه فيتعلق بالسؤال التالي، الذي ما كف عن طرحه على أنفسهم مجادلو الحبابي ومؤرخو فكره: هل يمكن، بعد كل شيء، اعتباره مفكراً عربياً؟ ويأتي هذا السؤال أولاً من واقع أن الحبابي كتب معظم مؤلفاته باللغة الفرنسية وترجم بعـــضها بعد ذلك إلى العــربية، وثانياً من كون الحبابي نفسه كان ينتمي إلى تيار فكري برز في فرنسا هو تيار الشخصانية الذي كانت تعبِّر عنه مجلة «إسبري» بشكل مغلق، قبل أن تمارس المجلة انفتاحاً ملحوظاً على أفكار الآخرين وأوضاع العالم في آونة لاحقة. > ولعل المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري كان الأوضح والأبسط في تعبيره عن عمق سوء الفهم المحيط بالحبابي، حين كتب في أحد فصول «الخطاب العربي المعاصر» في معرض تصنيفه لتعبيرات ذلك الخطاب: «لم نتناول محاولات رينيه حبشي ومحمد عزيز الحبابي الشخصانية، لأنها كتبت أصلاً بلغة أجنبية، فهي لا تنتمي إلى الخطاب العربي المعاصر». ومن المؤكد أن الجابري يعكس في هذه الملاحظة العابرة رأياً شائعاً يحاول استبعاد الحبابي من الفلسفة العربية المعاصرة، ومع هذا فإن الحبابي، ومنذ رحيله على الأقل، وربما قبل ذلك خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته، بدأ يعتبر كاتباً عربياً بعد أن راح يميز شخصانيته عن الشخصانية الكاثوليكية الفرنسية، ويعمل على إيضاح ما غمض من انتمائه العربي والإسلامي في نصوصه الأخيرة. ومن هنا، لم يكن من قبيل الصدفة أن يعيد إليه اتحاد كتاب المغرب، اعتباره العربي والإسلامي بكل وضوح، في الحفل التكريمي الذي أقيم لمناسبة أربعين رحيله. إذ في ثنايا سطور كل الكلمات التي قيلت، كان من الواضح وجود رغبة في تجاوز سوء الفهم القديم. > مهما يكن، فإن نظرة منصفة إلى كل ما كتبه الحبابي، سواء كتب أصلاً بالفرنسية، أو بالعربية، تكشف لنا أن همومه كانت عربية وإسلامية بشكل واضح، وتضافرت مع همومه العالمثالثية والإنسانية العامة. ومن هنا مثلاً، حين يكتب الحبابي عن «ابن خلدون»، وبالفرنسية، يتبدى واضحاً أن الكاتب عربي وأنه يتعامل مع ابن خلدون ليس تعامل المستشرق، أو اللامبالي أو المؤرخ الموضوعي، بل تعامل صاحب الهم العربي والإسلامي. وحين يغوص الحبابي في شخصانية إيمانويل مونييه، يحاول أن يجد فيها من العناصر المنهجية ما يؤهلها لأن تصبح على يديه «شخصانية إسلامية». وكذلك يفعل في كتابه الأساسي «من الكائن إلى الشخص» ثم في «من الحريات إلى التحرر» وفي «أزمة القيم». بل إنه، منذ وقت مبكر في كتابه «الشخصانية الإسلامية»، نراه يتحدث عن الإسلام والماضوية وكأنه يخاطب زمننا الحاضر هذا حين يقول إن «الماضوية على رغم إيجابياتها، عرفت تعثّراً، لأن زعماء الإصلاح لم يستطيعوا أن يكيّفوا آراءهم مع الأوضاع الجديدة. فظلت أوساط معينة كالعمال والنخبة تتطور خارج أفكارهم. لقد فكرت الماضوية المعاصرة في المشكلات الدينية بمعزل من التصنيع، مع أن لعالم التصنيع مشاكل جديدة سيكولوجية ومجتمعية تتولد عن نمو بيئات مستحدثة في الأوساط العمالية. وربما لأن الماضويين لم يدركوا العلاقة بين الإصلاح الديني من جهة، والتطور الاقتصادي من جهة أخرى، أتت آراؤهم كما لو أن العالم الإسلامي كان يتجه نحو حالة استقرار، في حين أنه كان يتخبط في أزمة خانقة من أثر الصدمة التي ترتبت على مجابهته الاستعمار والتصنيع». > هذا بالنسبة إلى مضمون فكر الحبابي، أما تنوع فكره فكان ملفتاً، فهو كتب بالفرنسية، وأحياناً بالعربية، في مجال الفلسفة والتاريخ والأيديولوجيا، كما كتب الشعر والرواية والخواطر الفكرية، وأرخ للفلسفة العربية والإسلامية تأريخاً حياً متميزاً، نموذجه الدراسات الملفتة التي جاءت في كتابه «ورقات عن فلسفات إسلامية» وتناولت الفارابي والغزالي وابن طفيل وموسى بن ميمون. وإلى هذا لم يكفّ الحبابي عن تنبيه العالم الثالث إلى المآزق التي وقع فيها. كما أنه لم يكفّ عن الدعوة إلى مجابهة الاستعمار فكرياً وثقافياً، لأن الاستقلال السياسي عنه لا يكفي. ومن هنا، لم يكن صدفة أن يقول الحبابي في سنواته الأخيرة داعياً إلى تغيير نمط العلاقة مع الغرب: «إن التغيير هو قدرنا وقدر الغرب، أراد ذلك أم أبى. والعالم الثالث طرف كامل الحق في كل تصور لذلك التغيير وللمستقبل. وإذا كان الغرب قد طرد العالم الثالث من التاريخ، بعدما نهب مواده الأولية وداس كرامته، فإنه لن ينجح في أن يُخرج من أحشائه كراهيته الظلم والعدوان».

مشاركة :