محمود عبد الله (أبوظبي) عاش ابن خلدون معظم مراحل حياته في تونس والمغرب الأقصى، وهو الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأديب، يعد في نظر الباحثين حجّة في كل ما يتعلق بالحياة الإنسانية والاجتماعية، وستبقى نظرياته الواردة في مقدمته صالحة للاستفادة منها إلى وقت غير معلوم، ولعل هذا من أسرار خلود فكره المستنير. ولد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي بن أبي بكر، المعروف بـ«ابن خلدون» في تونس يوم الثاني من رمضان عام 732 هـ/ 1332م، لأسرة أندلسية الأصل من مدينة إشبيلية، هاجرت إلى المغرب، ثم قدمت إلى تونس أثناء بداية حكم الحفصيين، ونشأ في كنف عائلة تميزت بالعلم والأدب وشغل أفرادها مناصب سياسية رفيعة داخل البلاط الحفصي، درس النحو واللغة والفقه والحديث والشعر في جامع الزيتونة، وحفظ القرآن على يد والده، وأكابر علماء تونس، حيث اشتغل بالتدريس في جامع الزيتونة، وكتب الجزء الأول من مقدمته الشهيرة في قلعة أولاد سلامة بالجزائر، وعمل في جامعة القرويين بفاس المغربية، لكنه اعتزل الحياة بعد تجارب مليئة بالصراعات والحزن على وفاة أبويه وكثير من شيوخه، إثر وباء الطاعون الذي انتشر في جميع أنحاء العالم سنة 749هـ/ 1348م، ومن حسن الطالع أن هذا الأمر جعله يتفرّغ مدة أربع سنوات للبحث والتنقيب في العلوم الإنسانية، ليقدّم للعالم سفره الخالد المعرف بـ«مقدّمة ابن خلدون»، مؤسساً بها لعلم الاجتماع بناءً على الاستنتاج والتحليل في قصص التاريخ وحياة الإنسان، ما جعله يُعرف بأنه من أشهر عظماء العرب، بل إنّ شهرته في الأوساط الثقافية في أوروبا تكاد تفوق شهرته في الشرق، حيث أجمع فلاسفة الغرب على أن «مقدمته» بفكرها وأسلوبها وطريقة بنائها، هي أعظم عمل أدبي مستشرف، يمكن أن يبدعه عقل بشري في أي زمان. أول وظيفة تولاّها ابن خلدون، الملقب بـ«عاهل أعلام التاريخ والفلسفة»، كانت كاتب مراسلات الوزير محمد بن تافراكين سنة 1350م، وكان أول فيلسوف يعيَّن واليًا للأدب والكتابة، وذلك في عهد سلطان تونس، وفي سيرته أنّه عندما سمع أن القائد «تيمورلنك» يحاصر دمشق، أصرّ على السفر إليها رغم بعد المسافة بينه وعاصمة الشام، مطلقاً مقولته: إن الوطن العربي جسم واحد، إذا أصيب منه عضو تداعت له جميع الأعضاء، ورحل ابن خلدون في رمضان عام 1406، ليُدفن في القاهرة بمقابر الصوفية عند باب النصر شمال القاهرة. ستة قرون مرّت على وفاة ابن خلدون، ولا تزال مقدمته محفوظة في ذاكرة العالم، وهي جزء من سفره الضخم الذي ألّفه في التاريخ العام وسمّاه «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، ويشتمل على المقدمة وثلاثة كتب هي: العمران وطبيعته، أخبار العرب وأجيالهم، أخبار البربر ومن يليهم، وقد حقق نتائج تنويرية هامة، منها: وضع منهج جديد لكتابة التاريخ يقوم على نقد الحقائق وتعليلها، حيث جعل من المجتمع وتكوينه ونمطه وتطوره موضوعاً للدرس العميق الحر، وأخضع الظواهر الاجتماعية للقوانين، وقام بدراسة تحليلية لتاريخ العرب والدول الإسلامية، وعرض محتويات الأحداث التاريخية على معيار العقل حتى تسْلَم من الكذب والتزييف، فكان بذلك مجدداً في علم التاريخ. وتعد مقدمة ابن خلدون من خير ما كُتب في علوم الإنسان خلال عصرها، ممثلة لأدق النظريات العلمية والاجتماعية والتاريخية والفكرية، وهي خير دليل لمن أراد الاطلاع على أحوال وصنوف المعرفة في عصره، ولعل ذلك سر خلود قيمتها الفكرية حتى عصرنا الراهن، حيث أشار ابن خلدون إلى إصرار الأثرياء على أن تكون لهم مناصب رسمية تعفيهم من المساءلة، مثل لجوء من أسماهم رجال المال إلى عضوية البرلمان، إضافة إلى تحالف الفساد والاستبداد، حين قال (حلف المال والسلطة يجعل رجال المال يهربون بقرب انهيار نظام الحكم في الدولة).
مشاركة :