أمريكا من الجغرافيا إلى التاريخ

  • 7/24/2022
  • 22:41
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

الصحفي المصري الراحل «محمد حسنين هيكل» له عبارة ملفتة يقول فيها «أمريكا جغرافيا بلا تاريخ»، في إشارة منه إلى حداثة نشأتها كأمة قياسا بالأمم والمجتمعات الإنسانية الأخرى، فأمريكا على المستوى الجغرافي رقعة واسعة من الأرض، غنية بكل الثروات الطبيعية التي تدفع عجلة البناء والأعمار والاكتفاء، يقابل ذلك فقر تاريخي، هذا الفقر في أحد جوانبه الإيجابية ضمن سلامتها ومناعتها من تبعات التاريخ ومسؤولياته التي عادة ما تثقل كواهل شعوب الأمم الأخرى وتحد من تقدمهم وتطوره وربما حرياتهم!ويبدو أن عبارة هيكل تلك فيها الكثير من المنطقية وخاصة في بلد كأمريكا كانت وما زالت القوة العظمى الأولى التي تسود العالم اليوم بأرقامها المخيفة في الاقتصاد، والمعرفة، والعلوم، والتكنولوجيا.هنالك أسباب كثيرة أسهمت في هذا الريادة الأمريكية، وهيكل اختزلها بحرفية عالية في بعدين رئيسيين؛ هما التاريخ والجغرافيا، ولكن هل أمريكا اليوم هي أمريكا الأمس التي خرجت منتصرة بعد الحرب العالمية الثانية؟قبل الإجابة على هذا السؤال، دعونا نستعرض الصراعات العسكرية الرئيسة التي خاضتها أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، فأولها كانت الحرب في شبه الجزيرة الكورية والتي تمخضت عن حالة من الانقسام والتقسيم لهذه الجزيرة تمثل ذلك في شطرين، أحدهما شيوعي والآخر رأس مالي ما زال يدور في الفلك الأمريكي، التاريخ بشواهده والجغرافيا بمآلاتها اليوم تقول إن تلك الحرب لم تفض إلى نصر أمريكي خالص، بل كانت حالة من الواقعية ارتأتها أمريكا آنذاك ورأت أنها النقطة الحمراء والأخيرة التي لا ينبغي تجاوزها حتى لا تخسر أكثر.ثم جاءت بعد ذلك الحرب الفيتنامية الشهيرة وحالة الانقسام التي سادت المجتمع الأمريكي آنذاك، والنتيجة كانت خروجا مذلا من ذلك البلد الفقير وخسائر فادحة في القيم الإنسانية والبشرية والقدرات الاقتصادية.ثم جاءت بعدها محاولة تحرير الرهائن الأمريكيين المحتجزين في إيران مع بداية ثورتها الخمينية والنتيجة كانت فضيحة مدوية أسقطت الديموقراطيين ورئيسهم آنذاك؛ جيمي كارتر.بعدها جاء احتلال العراق مرورا بأفغانستان وصولا إلى حالة الانكفاء الأمريكي الأخيرة في بؤرة الصراعات الجديدة كسوريا وليبيا، كل تلك الأحداث تؤكد حالة من العجز الأمريكي المزمن والواضح في حل جل قضاياها السياسية وأطماعها التوسعية التي ارتأت حسمها من خلال آلتها العسكرية الضخمة وغير المسبوقة في تاريخ البشرية.لعل أمريكا اليوم ومن خلال حزبها الديموقراطي تحديدا وبعد كل تلك الحروب الخاسرة ارتأت تنحية الجانب العسكري، وبدأت محاولاتها في التأثير على العالم من خلال أفكار يسارية متطرفة، متحاشية فضائع الحروب وويلاتها وطرائقها وكلفتها الاقتصادية والبشرية المدمرة، فتبنت الربيع العربي إبان فترة الرئيس أوباما وتنكرت لحلفاء لها في المنطقة، وحاولت تصعيد مفاهيمها الغريبة من خلال تيارات وأحزاب متعطشة للسلطة، ولكن وبعد مرور عشر سنوات على تلك الأحداث تعود المنطقة وشعوبها إلى حالة من السكينة والترقب المريب.هذا الاستعراض التاريخي السابق، خاصة الدموي منه للحالة الأمريكية، يمكن تفسيره وفهمه من زوايا عدة ويمكن تعاطيه كحالة من حالات السطوة لدولة عظمى، تود البقاء مسيطرة على العالم مستخدمة نفوذها الاقتصادي والعسكري والثقافي، لكن الذي لا نفهمه هو محاولة التنكر للتاريخ الإنساني لأمريكا وللشعوب الأخرى، والدخول في محاولات جادة وصريحة لإقصاء وزعزعة استقرار دول مؤثرة في المنطقة العربية -تحديدا- من خلال التستر والتشبث بقضايا شكلية وشعارات غير منطقية تستخدم لابتزاز تلك الدول، في محاولة أمريكية لإخضاع المنطقة وشعوبها من خلال تلك الشعارات الجوفاء، علما أن التاريخ وشواهده يثبت أن أمريكا نفسها هي من أكثر الكيانات السياسية انقلابا على تلك المفاهيم الإنسانية الأصيلة، وهذا ما يجعل العالم بنخبه وبسطائه يقفون دائما مشدوهين من حجم التناقضات الأمريكية المهولة بين ما تقوله وما تفعله.أمريكا وفي عهدة الديموقراطيين تحديدا تعيش حالة من الغربة بين المفاهيم السياسية البراغماتية الصرفة التي قامت عليها السياسة الأمريكية، والشعارات الجوفاء الجديدة والتي تحمل في طياتها كثيرا من التناقضات الأساسية مع الفطرة السوية، فالمفاهيم اليسارية باتت تسود المشهد الأمريكي، ومحاولة تصدير هذه المفاهيم للعالم باتت مشاهدة وغير مقبولة، وأمريكا اليوم أسيرة لأفكار غريبة وعجيبة، باتت تستأثر بالمشهد الأمريكي بصورة تجعلنا نتساءل «لماذا هذا التناقض الصريح في السياسة الأمريكية بين ما كان وما هو كائن؟» وهل ستنجو أمريكا نفسها من هذه الشعارات التي ستزيد من مستوى التردي الأخلاقي والذي بات يهددها كمجتمع مهما كان تنوعه إلا أنه يظل مجتمعا له قيمه ومعتقداتها ومرجعياته ومشتركاته ومشاركاته مع المجتمعات الإنسانية الأخرى؟لئن كانت أمريكا كما قال هيكل «جغرافيا بلا تاريخ»، فهي اليوم أسيرة لمفاهيم وأفكار أيديولوجية متطرفة، يبدو أنها إرهاصات نهاية التاريخ، لإمبراطورية أعطتها الجغرافيا الكثير، واليوم يعيش هذا الكيان تداعيات أفكار وتناقضات خطيرة، بدأت تكتب تاريخه الجديد ليكون نهاية التاريخ كمآل حتمي ومنطقي لهذه المغالطات، وبداية منتظرة لولادة نظام عالمي جديد!@alaseery2

مشاركة :