ينطلق السرد في «خريف البراءة» مثل سهم مشدود إلى وتر صلب، فارشاً مروحة واسعة من العناصر الدرامية، وفي طليعتها خلفية القصة والشخصيات المعنية بها. السرد مشدود ومتوتر السرد هنا، حتى أننا قبل السطر السابع من مطلع الرواية نكون قد علمنا بأن الراوي هو نفسه بطل الرواية وأن أمه قُتلت وهو في الثالثة من العمر وأن أباه توارى بعد مقتلها. عند السطر السابع تكون معالم البلدة والقبيلة التي غزتها «الحداثة» قبل الأوان قد رُسمت بما يشبه الفحم الأسود، بلا تلوين ولا زخارف. وعلى الرغم من ذلك، تأخذنا اللهفة لتقصي دخيلة هذا الطفل المستوحد، بخاصة أنّ من حوله يهجس بفرضية تأثره بالجرم الذي ارتكبه أبوه، «إذ لا يعقل أن يبرأ ابن من فعلة أبيه». ما إن ينطلق السرد، حتى تتدفق العناصر تدفقاً غزيراً مرهِقاً وتتوالى الشخصيات ليجد القارئ نفسه لاهثاً خلفها، لعلّه يُمسك بالخفي من الحكاية خشية أن يضنّ عليه الراوي الغريب الأطوار بكشف ما ينبغي كشفه. غريب، ابن القتيلة المتهمة هذا، وابن زوجها القاتل البغيض على قلوب الناس. غرابته كطفل تنسحب عليه كراوئي مزاجي، يتوقف فجأة عن الحكي أو يطير فوقه. يسلمه إلى صانع الرواية مرّة أو إلى أقربائه وقريباته الذين نشأ معهم مرات. كأنما في حاجة إلى شهادات الآخرين ليكتمل نسيج الدراما أو لتنال هذه شرعيتها عبر مرورها بوعي هؤلاء. عند مشارف الخاتمة سنكتشف أن هذا التناوب كان من ضرورات السرد، فالراوي يغدو الضحية الذي تقع عليه مأساة أفظع من كل ما سبقها. سيغيب كما يغيب الآن أبرياء كثيرون فلا يبقى «من يخبّر عنه» سوى كاتب شجاع. سيغيب، ولن ينفعه التحليق الذي دأب عليه هذا الطفل المجروح في نرجسيته منذ باكر طفولته، المتشرّد بين بيوت الأقارب. الشكاكون منهم بخيانة أمه أو الرافضون تصديقها. جميعاً يهجسون بالسؤال، من هو العشيق ومن هو القاتل؟ وآخرون باستعراض الاحتمالات: إن كان هذا الابن سيبرأ من الفعل الشنيع الذي ارتكبه أبوه ذو الكفين الكبيرتين؟ إن كانت كفاه هو أيضاً ستكبران وتغدوان أداة لجريمة أخرى يعجزون عن تخيّل معالمها أو ضحيتها؟ هل كان لهذا المتّهم الافتراضي من سبيل للنجاة غير التحليق والطيران؟ كيف لا ومشهد أمه المخنوقة بكفّي أبيه يطارده؟ كابوس يُطارده على الرغم من أنه لم «يره» إنما «تناهى» له عبر كلام الآخرين، أو بالتصوّر من خلال إشاراتهم ونظراتهم. من تلك الإشارات والتلميحات شاهد أمه مخنوقة وقد تدلّى لسانها وجحظت عيناها وازرقت رقبتها وطارت حكايتها على الألسن. كيف لن يطير هو فوق الأرض وفوق الزرع وفوق الناس ويحلّق بعيداً مستوحداً، لا سلوى له سوى حكايات ينسجها لنفسه، مشكّلاً عالمه الرهيف. عالم من حكايات لا علاقة لها بواقعه ولا بمأساته. حكايات مبتكرة تغلّفه وتفصله عن عالم الآخرين. هكذا دأب على الطيران، لا سيما حين يستولي عليه الخوف من أمه الميتة ولسانها الممدود ومن قبرها القائم في حوش الدار. إذاك يبالغ في تحليقه، يتحرر منها، من أبيه ومن كامل ماضيه، كما تتحرر العناصر من أثقالها: «الهواء من حوله يغدو فضاء من السحر اللازم لمداواة الروح. حتى الألم يغدو فضائياً حنوناً. شيء أخف من الألم يجعله يطير. قدماه تنفكان عن التراب وتمشيان بما يشبه الارتفاع. وحده –كما يقول- كان هكذا دون غيره. عالمه سيّار جوّاب متحرّك خفيف وعامر». هكذا يشيّد لامبالاته. ويبذل جهداً ليصيبنا بعدواها فلا يفلح، إذ لن يتأخر عن جذبنا إلى محطات تأملاته الذاتية البليغة، حول الحياة والموت والعلاقات الملتبسة. تأملات تصيبنا في العمق، إذ لا تعدو كونها لسان حالنا في المواقف العبثية التي خبرناها. نحن قراء عباس بيضون وأبنا جيله الذين لا نختلف عنه سوى بالقدر الذي يقرّبنا من عالمه. من «فوق الواقع» هذا وفي كثرة الحكايات وتداخلها، تغيب أسماء في الجزء الأول من الرواية، هي الأهم في عالم التسميات: أسماء الأطراف الثلاثة المعنيين بمأساة حدثت وأخرى قيد الحدوث. اسم الأب، الأم وابنهما. يا لهذا الثلاثي الطاغي في حضوره وفي غيابه! القاتل والقتيلة وطفل لهما يتأرجح في هذا العالم المنحرف بين صورة أب غابت بغيابه، وصورة أم قتلت لتبقى ساطعة المعالم. في مناخ الجريمة تغيب أسماء أمه وأبيه كما يغيب اسمه هو عن خارطة العائلة الممتدة. خريطة تعج بأناس يتدخلون في السرد، لهم أبناء وبنات، عموم وأخوال وجيران، وقد يقع أحدهم في هوى آخر وينسج حكايته الخاصة به، وهي تعبّر بشكل أو بآخر عن حكاية هذا المستوحد الهارب إلى عالمه المتخيّل. لهؤلاء أسماء، لا في العناوين فقط بل على ألسنة الآخرين: شري، سامية وسامي وعادل ويسري وفؤاد. جميعاً يتمتعون بأسماء ما عدا الراوي/ البطل القائم في قلب الحدث. ولولا عناوين الفصول الأولى لغاب اسمه كلياً عن بالنا وظلت الحكاية وحدها سيدة الموقف، على أن الاسم لن يلبث أن يظهر. بعد غياب عقدين، ظهر الأب ومعه الأسماء. وكنية العائلة أيضاً ظهرت. إنه غسان الشربيني ابن القاتل مسعود الشربيني وابن أمه المخنوقة «عايدة»، ابنة الطحيني صاحب الدكان. لقد شبّ الابن، تعلّم وتخرج واتخذ لنفسه المكان اللائق وسط أهله، وكاد يصير «غسان» الجامعي اللامع لولا تاريخه الشخصي القاهر، الذي على غفلة من جميع الأطراف، عقد حلفاً مع حاضر يفوقه قدرة على القهر. في تحالف الخاص والعام يتفاقم العنف، تتسارع عجلته وتتخذ مساراً ووقائع مذهلة، مقزّزة وخليقة بأفلام الرعب، غير أنها صورة لواقع فجّ نعيش فظائعه. نعيشها نحن أيضاً في «الإنكار»، إذ لا يمكننا تصديقها على الرغم من فرط تكرارها. لا يمكننا. فالمتوحش مرتكب الفظائع هذا و «أتباعه» ينتمون إلى السلالة ذاتها التي ننتمي نحن إليها. وعار أفعاله يهزّ أعماقنا فنمعن في الهرب كما أمعن غسان طفلاً في التحليق لينجو. لكنه لم يفلح. لن يكتب للتفاؤل الاستمرار طويلاً بعد ذلك. ليس الفضح ما يؤجج طاقة العنف الهائجة في دخيلة هذا القاتل. بل الإنكار. إنكار ابنه له. ها هو الابن يحذو حذو أمه فينكر على أبيه كيانه كما كانت تنكره عايدة، التي كانت تتشاوف على «بعلها» سيد الفحول وتنكر جوهر زواجها منه. والابن هذا يحمل «سرّ» أمه لا «سر» أبيه. أبوه الذي «عاد» مغواراً حاملاً «راية» الدين. على الرغم من مريديه «المؤمنين» وأتباعه هواة القتل والترهيب، يجد نفسه الآن عاجزاً أمام ابنه! هو مسعود الشربيني ثانية يرى نفسه في وقفة الذل عينها التي دفعته قبل عقدين إلى قتل المرأة التي عيّرته، هو الفحل، بعجزه أمامها. كيف إذن لن تقع المأساة والفحل حلّق طويلاً في هوامات الإجرام حتى تخيّل ابنه حاملاً رايته منادياً بأهلية زعامته وسطوته، مرتكباً أفعاله؟ لكنّ الابن قال كلمته. في حقيقة الأمر كان هذا هو الفعل الوحيد الذي ارتكب. أيهما أشدّ بلاغة، الكلام أم السيف؟ يا له من سؤال ساذج والأجوبة ترمينا بسهامها كل يوم! منبع التراجيديا في «خريف البراءة» ليس غياب الأب كما في «أوديب الملك» بل في طغيان حضور الفحل وتبجيل الذكر ورعونة التسلط. طغيان يقلب المفاهيم فلا نميز بعدها بين الرجولة والذكورة. ولا بين الفحل والإنسان. مَن لم يخبر إنجازات الرجولة، سينهار كيانه تحت وطأة الفحولة، تحت مزاجيتها أو رعونتها. يلزمه دخول عالم الرجال ليتخذ المسافة اللازمة مع ذكورته البدائية، ليعبر إلى كيانه الإنساني ينتمي إلى الإنسانية وإلى الآخرين. ليغدو أباً لا يتوارى عن ابنه ولا يقتل أمه. ما أيسر أن يهتز كيان ذكر يتوارى في جلباب التسلّط والترهيب، كما تتوارى خلف هذا هشاشة أي دكتاتور آخر أوصلته الملابسات إلى السلطة. ما أيسر أن تُعمى بصيرته ويرتكب ما فيه مهانة للإنسان وللإنسانية. على أن أفعال القاتل هذه المرة ستفوق كل تصور وتتجاوز كل الحدود. في عباءته الفضفاضة وتحت راية لا تُقهر، سيرفع الفحل شعارات مبتورة من جذورها فاقدة أصولها ناكرة أصالتها. يا لبؤسنا والعنف الشخصي البدائي قد وجد في «العام» ما يغريه بالاستسلام إلى أقصى حدود العنف. أقصاها، أفظعها وأشدها بشاعة. أفظعها تلك التي يرتكب فيها الأب كبرى الكبائر: ذبح ابنه!
مشاركة :