إن مخاطر ارتفاع التضخم عن المستوى المتوقع لا تزال كبيرة، وقد يلزم تشديد السياسة بدرجة أكثر حدة إذا تحققت هذه المخاطر. فمنذ أشهر قليلة فقط توقعت البنوك المركزية في الاقتصادات الرئيسة أنها قد تشدد السياسة النقدية بخطوات تتوخى التدرج الشديد. وبدا التضخم مدفوعا بمزيج غير معتاد من صدمات العرض التي اقترنت بالجائحة وأخيرا بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وكان من المتوقع أن ينخفض سريعا بمجرد تراجع هذه الضغوط. والآن، في ضوء تصاعد التضخم إلى مستويات لم يصل إليها منذ عدة عقود وامتداده إلى خدمات الإسكان وغيرها، تدرك البنوك المركزية ضرورة التحرك بسرعة أكبر لتجنب انفلات التوقعات التضخمية وإلحاق الضرر بمصداقيتها. وينبغي أن يتنبه صناع السياسات لدروس الماضي وأن يكونوا حازمين في سعيهم لتجنب إجراء تعديلات قد تكون أكثر إيلاما وإرباكا في المستقبل. وأجرى بالفعل كل من الاحتياطي الفيدرالي، وبنك كندا المركزي، وبنك إنجلترا المركزي، زيادة كبيرة في أسعار الفائدة، وأشارت إلى أنه يتوقع إجراء زيادات أكبر هذا العام. وأجرى البنك المركزي الأوروبي زيادة في أسعار الفائدة أخيرا، لأول مرة، منذ أكثر من عشرة أعوام. وبشأن ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية للمساعدة على خفض التضخم، فقد أدت إجراءات البنوك المركزية وتصريحاتها بشأن المسار المرجح للسياسة النقدية، إلى ارتفاع كبير في أسعار الفائدة الحقيقية "أي المعدلة لتحييد التضخم" على سندات الدين الحكومي منذ بداية العام. وبينما لا تزال أسعار الفائدة الحقيقية قصيرة الأجل سالبة، فإن المنحنى الأجل لأسعار الفائدة الحقيقية في الولايات المتحدة ـ أي مسار أسعار الفائدة الحقيقية لعام مقبل على مدار عام واحد إلى عشرة أعوام والمستمدة ضمنا من أسعار السوق ـ ارتفع عبر المنحنى ليراوح بين 0.5 و1 في المائة. ويتسق هذا المسار تقريبا مع موقف سياسة أسعار الفائدة الحقيقية "المحايد" الذي يسمح للناتج بالتوسع حول معدله الممكن. وأشار ملخص التوقعات الاقتصادية الذي أصدره "الاحتياطي الفيدرالي" في منتصف حزيران (يونيو)، إلى سعر فائدة حقيقي محايد يبلغ نحو 0.5 في المائة، وتوقع صناع السياسات توسعا في الناتج بمقدار 1.7 في المائة في العامين الحالي والمقبل، وهو ما يقترب كثيرا من تقديرات المستوى الممكن. وفي منطقة اليورو، ارتفع أيضا المنحنى الأجل لأسعار الفائدة الحقيقية، ممثلة بالسندات الألمانية، وإن ظل في حدود سالبة كبيرة. ويتسق هذا مع اقتراب أسعار الفائدة الحقيقية من المستوى المحايد على نحو يلتزم التدرج. ونتيجة لارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية على السندات الحكومية، حدث ارتفاع أكبر في تكاليف الاقتراض بالنسبة إلى المستهلكين ومؤسسات الأعمال، وأسهم ذلك في حدوث انخفاضات حادة في أسعار الأسهم على مستوى العالم. ويبدو أن الرؤية النمطية لكل من البنوك المركزية والأسواق تستشرف كفاية هذا التشديد للأوضاع المالية من أجل تخفيض التضخم إلى المستويات المستهدفة بسرعة نسبية. وللتوضيح نقول إن مقاييس توقعات التضخم القائمة على السوق تشير إلى عودة التضخم إلى نحو 2 في المائة في غضون عامين أو ثلاثة أعوام لكل من الولايات المتحدة وألمانيا. ويشير أحدث تنبؤات البنوك المركزية، ومنها أحدث التوقعات ربع السنوية الصادرة عن الاحتياطي الفيدرالي، إلى تراجع مماثل في معدل الزيادات السعرية، وهو ما يستخلص أيضا من مسوح الاقتصاديين والمستثمرين. ويبدو هذا السيناريو خطا أساسيا معقولا للتوقعات، وذلك لعدة أسباب، يتوقع أن يؤدي التشديد النقدي والمالي الجاري، إلى تخفيف الطلب على كل من الطاقة والسلع غير الطاقة، خاصة في الفئات الحساسة لأسعار الفائدة، مثل السلع الاستهلاكية المعمرة. ومن شأن هذا أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع بوتيرة أبطأ أو حتى إلى هبوطها، وقد يدفع أيضا بأسعار الطاقة إلى مستويات أدنى ما لم تطرأ اضطرابات أخرى في أسواق السلع الأولية. ويرجح أن تقل الضغوط على جانب العرض مع انحسار الجائحة وانخفاض معدل تواتر الإغلاقات العامة وانقطاعات الإنتاج. كما يتوقع أن يؤدي تباطؤ النمو الاقتصادي في نهاية المطاف إلى خفض التضخم في قطاع الخدمات وكبح نمو الأجور... يتبع.
مشاركة :