وعن وجود احتمال كبير بارتفاع التضخم، مع أن حجم الطفرة التي شهدها التضخم كان مفاجئا للبنوك المركزية والأسواق ولا يزال التضخم محفوفا بقدر كبير من عدم اليقين، فمن الممكن أن ينخفض بسرعة أكبر مما تستشرف البنوك المركزية، خاصة إذا تراجعت انقطاعات سلاسل الإمداد وأدى تشديد السياسات عالميا إلى سرعة انخفاض أسعار الطاقة والسلع. ومع ذلك، يبدو أن ميزان المخاطر يميل بقوة صوب ارتفاع التضخم عن المستويات المتوقعة. وهناك احتمال كبير بأن يترسخ التضخم المرتفع، وأن تنفلت التوقعات التضخمية عن الركيزة المستهدفة. ويبدو أن معدلات التضخم في قطاع الخدمات ـ كل الخدمات بدءا من إيجارات المساكن إلى الخدمات الشخصية ـ آخذة في الارتفاع عن مستوياتها المرتفعة من الأصل، ومن غير المرجح أن تتراجع بسرعة. وقد تتعزز هذه الضغوط بتأثير نمو الأجور الاسمية. ففي الدول ذات أسواق العمل القوية، يمكن أن تبدأ الأجور الاسمية في الارتفاع بسرعة تتجاوز الوتيرة المعقولة التي يمكن أن تستوعبها الشركات، مع انتقال الزيادة المصاحبة في تكاليف وحدة العمل إلى الأسعار. ومن شأن هذه "الجولة الثانية من الآثار" أن تتجسد في صورة تضخم أكثر استمرارية وتوقعات تضخمية متصاعدة. وأخيرا، فإن زيادة احتدام التوترات الجغرافية ـ السياسية التي تدفع إلى طفرة جديدة في أسعار الطاقة أو تفاقم الانقطاعات القائمة يمكن أن تتسبب أيضا في إطالة أمد التضخم المرتفع. وبينما قد تبدو الأدلة القائمة على السوق بشأن توقعات التضخم "المتوسطة" التي ناقشناها آنفا باعثا على الاطمئنان، يبدو أن الأسواق ترجح كثيرا إمكانية أن يبلغ التضخم مستويات أعلى بكثير من مستهدفات البنوك المركزية على مدار الأعوام القليلة المقبلة. وعلى وجه التحديد، تشير الأسواق إلى وجود احتمال كبير بأن تظل معدلات التضخم أعلى من 3 في المائة في الأعوام المقبلة في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو والمملكة المتحدة. وأصبح المستهلكون ومؤسسات الأعمال يستشعرون قلقا متزايدا أيضا في الشهور القليلة الماضية بشأن مخاطر ارتفاع التضخم عن المستوى المتوقع. ففي الولايات المتحدة وألمانيا، تشير مسوح قطاع الأسر إلى أن الناس يتوقعون معدلات تضخم مرتفعة على مدار العام المقبل، ويرجحون بقوة احتمال أن يرتفع كثيرا عن المستوى المستهدف على مدار الأعوام الخمسة المقبلة. وبشان أنه قد تكون هناك حاجة إلى زيادة تشديد السياسة، فقد يثبت أن تكاليف تخفيض التضخم أعلى بكثير إذا تحققت مخاطر ارتفاعه عن المستوى المتوقع وأصبح تضخما عميق الجذور. وفي تلك الحالة، ستضطر البنوك المركزية إلى اتخاذ موقف أكثر حزما وإجراء تشديد أقوى لتهدئة فورة الاقتصاد، ومن المرجح أن ترتفع البطالة إلى حد كبير. وفي ظل دلائل ضعف السيولة بالفعل، فإن تعجيل وتيرة تشديد السياسة قد يؤدي إلى انخفاض حاد آخر في أسعار الأصول ذات المخاطر ـ ما يؤثر في الأسهم والائتمان وأصول الأسواق الصاعدة. والاحتمال كبير بأن يكون تشديد الأوضاع المالية غير منظم، ما يختبر صلابة النظام المالي ويفرض ضغوطا كبيرة على الأسواق الصاعدة. وقد يضعف التأييد العام لتشديد السياسة النقدية، وهو تأييد قوي حاليا في ظل التضخم الذي بلغ مستويات مرتفعة لم يصل إليها لعدة عقود سابقة، بسبب تزايد التكاليف الاقتصادية وتلك المرتبطة بالعمل. ومع ذلك، فإن استعادة استقرار الأسعار تكتسب أهمية بالغة، وهي شرط ضروري لاستمرار النمو الاقتصادي. ومن الدروس الأساسية المستقاة من فترة ارتفاع التضخم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أن التحرك ببطء شديد لكبح التضخم يؤدي إلى تشديد السياسة بتكلفة أكبر بكثير من أجل إعادة توقعات التضخم إلى ركيزتها المستهدفة، واستعادة مصداقية السياسة النقدية. وسيكون من المهم للبنوك المركزية أن تحرص على إبقاء هذه التجربة نصب أعينها وهي تتحسس طريقها الصعب في الفترة المقبلة.
مشاركة :