ليست المرة الأولى التي تلقي فيها مصر بثقلها السياسي لوقف إطلاق النار وحفظ الدم الفلسطيني، فالتصعيد الإسرائيلي الأخير ضد قطاع غزة لم يكن الأول ولن يكون الأخير، لكنه كشف إلى أي مدى صارت الجماهير العربية "مشغولة" عن القضية الفلسطينية، تلهث من أجل حماية أنفسها من شظايا الثورات وحمم التظاهرات وجحيم الفوضى والانفلات. لم تتخل مصر الرسمية عن دورها في حقن دماء الشعب الفلسطيني، لكن هذا لا يعني أن حماسة الجماهير المصرية والعربية التي كانت تناصر الفلسطينيين قد خفّت بعدما جاء الربيع وكشف حجم العلاقة بين تنظيم "الإخوان المسلمين" الإرهابي وحركة "حماس". ومعروف أن العلاقة بين مصر و"حماس" شهدت على مدى السنوات التي أعقبت حوادث كانون الثاني (يناير) 2011 تدهوراً وصل إلى الذروة، عقب ثورة الشعب المصري على حكم "الإخوان" وإطاحة محمد مرسي من المقعد الرئاسي، إلى درجة خضوع عدد من قادة "الإخوان" ورموزهم، وبينهم مرسي نفسه، للمحاكمة بتهمة التخابر مع الحركة في قضية أضيفت إلى قضايا أخرى تتعلق بالإرهاب، ومتهم فيها أعضاء في حركة "حسم"، التي تعد جناحاً عسكرياً لجماعة "الإخوان"، وكذلك تنظيم "داعش" في سيناء بالتدريب على أيدي عناصر من "كتائب القسام"، واستخدام الأنفاق تحت الحدود المصرية مع القطاع في نقل الأسلحة والمتفجرات، ناهيك بالطبع بالتحقيقات المصرية التي أثبتت مشاركة أعضاء من "حماس" في هجمات استهدفت السجون عام 2011، أفضت إلى فرار بعضهم وظهورهم في وسائل الإعلام من قطاع غزة وسط مظاهر احتفالية. ولا يزال المصريون يتذكرون حملة "الإخوان" ضد الإجراءات التي اتخذتها السلطات المصرية لتأمين الحدود مع غزة، عندما استخدمت منصات التنظيم كلمات من الوزن الثقيل كـ"الإخلاء القسري" و"التهجير العمدي" و"الحملة على الأهل في سيناء" لمحاولة إقناع المجتمع الدولي، أو حتى الشعب المصري، بأن ما يجري هناك مخالف للقانون أو نتيجة لرغبة رسمية في التنكيل بأهالي سيناء. الأجهزة المصرية أنجزت العملية في سلاسة وهدوء ولم تنظم تظاهرة احتجاجية واحدة ضد الإجراءات التي اتخذت لتأمين الحدود والتمهيد لتحقيق تنمية شاملة في شبه الجزيرة، رغم أن التنظيم الدولي لـ"الإخوان" جيّش كل عناصره وآلياته وإمكاناته وقنواته لإشعال القضية ومحاولة تدويلها! تكفي متابعة الطريقة التي تعامل بها الإعلام الإخوانجي مع الحدث الجديد، والجهود المصرية لوقف إطلاق النار وحفظ الدماء الفلسطينية، لاكتشاف حجم الغضب الإخواني من كل إنجاز مصري، حتى لو كان لمصلحة الفلسطينيين والفصائل التي يفترض أن بعضها جزء من تنظيم "الإخوان" والبعض الآخر منها متحالف مع ذلك التنظيم. لجأ "الإخوان" إلى معايرة الحكم في مصر بأنه يتعامل مع "حماس الإرهابية"، من دون أن يلوموا الحركة وقادتها الذين عزفوا أغاني الثورة المصرية ضد الجماعة، واحتفوا بالجهود المصرية، ما سيفقد "الإخوان" ورقة مهمة ظلوا يلوحون بها ويستخدمونها لتحريض الشعوب العربية ضد الحكم في مصر، وإقناع عناصر "الإخوان"، ممن صدقوا يوماً أن مرسي سيعود إلى القصر يوم الأحد، أن السيسي يدعم الإسرائيلي بسبب عداء مصر لـ"حماس" والفلسطينيين!! المهم أن مصر عادت بحماسة إلى ممارسة ما تعتبره واجباً يحقق الأمن القومي العربي، وهو دور ظلت تضطلع به على مدى عقود في التعاطي مع القضية الفلسطينية، حتى لو كان ذلك الدور يقتضي منها التعامل مع "حماس" التي تعاونت ونسقت ورتبت مع الإخوان لإيذاء المصريين. وظلت النخب السياسية على مدى عقود، توجه أصابع الاتهام إلى الحكام العرب بالتخاذل أو التقاعس أو التهاون، كلما مارست إسرائيل الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني، أو صعَّد الجيش الإسرائيلي من وحشيته وهمجيته ضد أبناء فلسطين، وبقيت النخبة السياسية تشيد بردود الفعل الشعبية في كل حادث أو تطور على الأراضي الفلسطينية، وتؤكد أن فلسطين ستعود بواسطة الشعوب لا الحكام، وأن الحق سيرجع ما بقيت الجماهير العربية على موقفها الرافض لإسرائيل وأفعالها ومجازرها وإرهابها. حل الربيع العربي وضرب دولاً عربية، واحدة وراء الأخرى، ورغم الانتصار عليه في مصر وتحجيمه في دول أخرى، إلا أن خرابه لا يزال يدور في ليبيا وسوريا واليمن، وبقاياه تضرب العراق، ورذاذه يهدد دولاً أخرى، فانشغلت الشعوب العربية، إما بالاقتتال الداخلي، أو بالنضال من أجل الحفاظ على مجتمعاتها والتصدي لمؤامرات "الإخوان" وباقي الجماعات الإرهابية الأخرى، وكشف محاولات التخريب الإخواني والتمدد الإيراني، بينما غالبية رموز النخبة العربية انقسموا أو حوّلوا البوصلة وصاروا يبحثون عن إسقاط الحكام العرب في الدول العربية ذاتها بدعوى أنهم تصدوا للربيع وقاوموا التغيير. كل ذلك تغير، حتى النخبة لم تعد عند مواقفها القديمة بعدما تورطت لفترة طويلة في الترويج للربيع العربي، وضغطت على الشعوب وسعت إلى تغيير مساراتها لمصلحة قوى خارجية وتنظيمات وجماعات مرتبطة بقوى إقليمية، فانشغلت الشعوب بهمومها الداخلية وتوارى الاهتمام بالأوضاع في المدن الفلسطينية إلى مرتبة تالية. محطات كثيرة مرت على مصر ربطت ما بين "حماس" و"الإخوان" الذين فشلوا في حكم مصر وجروا البلد إلى هوة سحيقة، وعندما ثار الناس ضدهم وتدخل الجيش لإنقاذ الدولة من التفكك، لطموا الخدود وطالبوا بالشرعية واستعدوا العالم ضد الشعب والجيش وعاشوا في دور المظلومين، وكانت "حماس" بالطبع حاضرة تماماً، كما بقيت حاضرة في قضية هدم الأنفاق وتأسيس المنطقة العازلة التي بقيت لسنوات غير عازلة وتحت أمر الحمساويين، من دون أن يراعوا حرمة الأراضي المصرية أو أرواح المصريين!
مشاركة :