أصدر الكاتب الأرجنتيني ألبيرتو مانغويل كتابا جديدا عن دار «أكت سود» 2015 تحت عنوان «الفضول» عمل تأويلي متشعب نلتقي فيه بسقراط، وزينون الإيلي، موسى بن ميمون، ونيكول بروسارد، أولامب دو غوج، ديريك والكوت، إسماعيل كاداري، روبرت أوبنهايمر وعلى الخصوص دانتي وآخرين كثيرين. تميزوا بنوع من الفضول المعرفي قادهم إلى تأسيس معارف إنسانية خالدة. وبناء عليه اعتبر ألبيرتو مانغويل «الفضول» ميزة أساسية للإنسان رافقته منذ البدء، فكانت وسيلة لإنتاج المعرفة الإنسانية بتنوعها وتشعبها. في كتابه الأخير يقدم أدلة الأكثر وضوحا، عن ضرورة القراءة بل ضرورة الحرية في القراءة. يعترف مانغويل في سياق بحثه بأن الأدب يحب الفضول، لأنه يوسع الأفق ويحقق للمرء سعيا دائما نحو المعرفة الأجمل والأكمل. الفضول نفسه يحمل القارئ المهتم بأعمال ألبيرتو مانغويل المتغلغلة في المكتبة وحبرها ورفوفها وسراديبها البابلية إلى قراءة صفحات بحثه الجديد الذي يفوق الأربعمائة صفحة. لكن هذه المرة ليس غيرها فإن ألبيرتو مانغويل يتخذ (دانتي أليغيري) دليله وسراجه المضيء للنزول إلى عالم من المعرفة الغابرة والشاملة، فبعد أكثر من سبعمائة سنة على ظهور «الكوميديا الإلهية» التي يعتبرها ألبيرتو مانغويل بلا منازع (كتاب الكتب). يقول عنها مانغويل: «إن الكوميديا الإلهية يمكن قراءتها كلها كمسار رجل فضولي... قرأت الكوميديا الإلهية متأخرا، عندما بلغت الستين، وبمجرد القراءة الأولى، أصبحت بالنسبة لي كتابا شخصيا تماما إلا أنه كتاب لا نهائي»، من خلاله اكتشف مانغويل أن العلاقة الحميمة بالكتابة، والوعي أن الأدب بلا حدود أو قيود: هذه هي القوة المضاعفة للقراءة، وهي «النشاط» الذي أشاد به ألبيرتو مانغويل طيلة مشواره التأليفي الطويل عن القراءة والمتخيل والمكتبات. إذا كان الكاتب أرجنتيني الجنسية، كندي الهوية، فإنه بالمقابل عالمي بمعرفته الكونية، لهذا السبب بالذات يبحث مانغويل عن الموضوعات المشتركة بين الإنسانية مثلا كـ «الفضول»، «ورغبة الإنسان للاستكشاف»، ويركز في هذا المقام على إلحاح البشر على طرح الأسئلة. لأن الاستفهام محرك التأويل بصفة عامة والتأويل الأدبي بصفة خاصة، وما يصاحب هذه العملية من تعليقات، وملاحظات، وتوجسات أيضا – لا يمكن استبعاد أهميته – لأنه يمنح الكثافة للأعمال. يؤكد ألبيرتو مانغويل على أهمية السؤال «لماذا» – الذي تليه علامة استفهام ويشير بهذا الصدد إلى أن العلامة لم تظهر إلا في القرن السادس عشر. «كما يعلم أي سائل، أن الإثباتات تميل إلى عزل الإنسان. بينما التساؤلات تميل إلى وصله بالعالم والمعرفة». الفضول وسيلة لإعلان عضويتنا في الأسرة البشرية، يقول ألبيرتو مانغويل: إن تجسيد المعرفة يتسم دائما بالسخاء. ويشير أيضا إلى أن قارئا جيدا يجب أن يفترض ليس تفسيرا لما يفاجئه ويضلله فقط، ولكن عليه أن يصنع مادة للتفكير. بل ويسعى إلى تكثيف ما يقرأه، مانحا إياه روحا وجسدا. لا عجب إذا رأينا أن الوقت الراهن محشو باليقين وأن القراءة أضحت نادرة في العالم بأسره. وحتى في المجتمعات التي اعتبرت لعقود مجتمعات قارئة. صحيح أن عمليات التوعية لا تعد ولا تحصى والندوات والحلقات الدراسية والاجتماعات العامة الأخرى... المكرسة لهذا السخط الأدبي. ومعارض الكتاب المتعددة عبر انحاء العالم مكرسة جميعها لهذا السخط الأدبي المتجسد في السؤال الإشكالي: لماذا؟ حسنا، لأن «لماذا»، في الواقع، ليست القضية الأساسية. بدلا من ذلك، كما يشير المؤلف «فإنهم يعلموننا أن نسأل»: «كم سيساوي ثمن هذا الشيء؟» و«كم من الوقت سوف سنستغرق؟» الوقت والمتعة تنازلا لصالح الإلحاح والربح. الوقت هو المال. أما التأمل وحب الاستطلاع فمضيعة للوقت، وتعطيل لحركية الإنتاج. يقول ألبيرتو مانغويل إن الوسيلة الوحيدة لتحبيب القراءة للأطفال هي أن نقدم لهم وعودا مثل: «في مكتبتي هناك صفحة واحدة على الأقل كتبت لأجلك. أنا لا أعرف أين ؟ ولا في أي كتاب. أنت من ينبغي أن يعثر عليها». يذهب الأطفال مفتونين ومتطلعين لزيارة الفضاء البابلي، حيث الهوية الوحيدة المتبقية للكاتب. إحدى تجارب الحياة المشتركة بين معظم القراء هي اكتشاف، عاجلا أو آجلا، كتابا يعزز أكثر من أي شيء آخر اكتشاف الذات والعالم، اللذين يبدوان في الآن نفسه عسيرين على الإدراك ومركزا لعمل ذهني يشتغل بطريقة حميمة وفريدة على أشد التفاصيل صغرا «وبعبارة أخرى فإن القراءة، هي رحلة لاكتشاف الذات وتسجيلها ضمن تاريخ العالم من خلال إقامة تواصل مع النصوص القديمة، كليا أو جزئيا، لتصبح فيما بعد ملكنا الخاص». «الفضول يساعدنا على النمو»، يكتب ألبيرتو مانغويل. القراءة إذن هي انقلاب لأنها تغيرنا. عندما نشب عن الطوق، وننفتح على العالم، فإننا نوسع من مجال رؤيتنا. لذلك نحن نتسلح بها لمحاربة أولئك الذين يريدون منعنا، وتقييدنا في أمكنة ضيقة، القراءة سلاح لمحاربة الغباء والنوايا المبيتة لعزل المجتمع داخل دوامة الجهل وتعويض المعرفة بالترفيه وثقافة الاستهلاك. مع ألبيرتو مانغويل، «الأدب ليس» أجوابة يقدمها لنا العالم «بل كنز عظيم من أفضل الأسئلة وأغناها. علما أننا حينما نكبر، وسنكون دائما أصغر أمام الشساعة الأدبية، وعظمتها. وهذا ما سيجعلنا متواضعين». كتاب ألبيرتو مانغويل ككتبه السابقة درس عميق بيداغوجي ومعرفي لا ينضب منه معين السؤال والإلحاح على المعرفة والمزيد من المعرفة عبر طريق ملكي وحيد تستعرض على جنباته رفوف عظيمة من الكتب التي تجدد الحياة وتتجدد فيها المعارف كل يوم بالقراءة. وأخيرا لا أجد كلمة أبلغ مما قاله في كتابه الأخير. الكلمة عبارة عن وصية شاعرية بليغة، يقول مانغويل: «أتمنى حالما أموت أن يبلغ أحدكم (...) كتبي أني لن أعود». وكأن مانغويل لا يتنمي في الواقع إلا إلى المكتبات وعوالمها الساحرة.
مشاركة :