ألبرتو مانغويل الكاتب الموسوعي الذي يوصف بأنه "الرجل – المكتبة" أو "دون جوان الكتب"، وغير ذلك من ألقاب تبين عن مدى عشقه للكتب والقراءة، لدرجة أنه يعيش بين أكثر من أربعين ألف مجلد تحتويها مكتبته، أما إبداعاته فقد فاضت لتملأ خمسين كتابا منها خمس روايات وعدد من الكتب النقدية إضافة إلى كتب أخرى أرسى من خلالها قواعد ما يمكن تسميته "علم القراءة"، عبر ثلاثيته "يوميات القراءة، فنّ القراءة، تاريخ القراءة"، وعبر كتب أخرى مثل "المكتبة في الليل"، "مدينة الكلمات"، حيث تناول الكتب ومؤلفيها تناولا غير تقليدي، علق هو عليه في أحد الحوارات بقوله "لم أكن على دراية بأنه كان نوعاً جديداً؛ إن تعريفات النوع الأدبي تتعلق بقيود لا أقبلها، وكل كاتب يمزج بين ما نتفق أو نختلف على تسميته النوع. لقد مزج براوننج القصائد مع المونولوج المسرحي، وجمع ابن بطوطة بين قصص الرحلات والسير الذاتية، وكتب بورخيس القصص الخيالية التي بدت مثل دراسات، كما أن أبو العلاء المعري نسج الكتابة اللاهوتية في الكوميديا الشعرية. ولأن القراءة بالنسبة لي هي الوسيلة الطبيعية لتجربة العالم، فإن تعليقاتي على ما أقرأ هي نوع من أنواع السير الذاتية والنقد والأبحاث التاريخية، وفي بعض الأحيان مقتطفات من قصص مختلفة". وهو في الوقت نفسه يؤكد على أن طريقته في القراءة والتعامل مع الكتب تخصه وحده، هو فقط يثير فضول القارىء، ويترك له المجال "ليجني شيئًا مختلفًا من كل كتاب، شيئًا شخصيًا بشكل بحت. سأبدو سفيهًا في حال أخبرت القرّاء بما يجب أن يخرجوا به من الكتاب. لقد قرأ دانتي لفيرجيل وأُلهِم ليغدو شاعرًا، وبالمثل فقد قرأ قاتل جون لينون رواية (الحارس في حقل الشوفان) التي أوحت له بفكرة القتل". • لماذا؟ ألبرتو مانغويل سار على الدرب نفسه في كتابه "الفضول" الصادر قبل عامين عن دار "آكت سود" الفرنسية، والذي أتاحته مؤخرا دار الساقي للقارىء العربي عبر ترجمة للكاتب السوري إبراهيم قعدوني، فعبر سبعة عشر فصلا بدأ كل منها بسؤال خَصصه لأحد الكتاب، أو المفكرين، أو الفنانين، ممَّن ابتكروا طرقًا جديدة في طرح سؤال "لماذا؟"، السؤال الذي يُعَد مرآةً عاكسة للفضول البشري الذي ظلَّ عبر العصور دافعًا من دوافع الإنسان للمعرفة والاكتشاف، وتأتي الإجابات عبر 415 صفحة لتروي فضول الكاتب نفسه، فهو القائل "يمكنني القول بأن الفضول أو حب الاستطلاع خاصّتي هو مُلهمي. دائمًا ما أندهش من كَم الأشياء التي لا أعرفها والتي تبدو مساحةً لا متناهية تمتد خلف كل بابٍ أعمِد إلى فتحه. بالكاد أشعر بالتأكيد حيال أي شيء وبمجرد أن أعلم بشيءٍ ما فهناك شيءٌ آخر ينشب في نفسي رغبةً بالتساؤل بشأنه. عندما كنتُ طفلاً لم أكن أطيق أن يُقال لي أفعل هذا أو لا تفعل ذاك، دون أن أتساءل فورًا لماذا؟ ماذا سيحدث في حال فعلت أو لم أفعل؟ وأستمر في طرح مثل هذه الأسئلة". • إعلان الانتماء قال مانغويل عن كتابه "الفضول": "آمل أن يكون أكثر تركيزًا وأقل تشتيتًا من كتبي الأخرى. أتمنى أن يبرز بشكل أوضح من كتبي السابقة العلاقة التي أؤمن بوجودها بين القراءة والمعيشة، وبين الأدب والعالم الذي نسميه حقيقيًا". فتلك العلاقة تنشأ مبكرا، ربما بعد الثرثرات والهمهمات الطفولية، وبمجرد أن نستطيع أن نعبّر بجُمل مفهومة، فإننا نبدأ في سؤال لماذا؟ ثم لا نتوقف أبدًا، ولكننا بعد فترة وجيزة من طرح هذا السؤال الحيويِّ، نكتشف أنَّ فضولنا نادرا ما يُقابَل بإجاباتٍ شافية أو ذات معنى، إلا أننا لا نكف عن الفضول، بل تزيد الرغبة في طرح المزيد من الأسئلة لما في التحدث مع الآخرين من متعة، كالتي يشعر بها أيُّ مُحقق، فالتأكيدات تميل إلى التقييد، والأسئلة مأزق، والفضول هو وسيلة لإعلان انتمائنا للجنس البشريِّ. ميشيل دي مونتين الشهير في كتابه المقالات: "ماذا أعرف؟" إنَّ مصدر هذا السؤال هو مقولة سقراط الشهيرة "اعرف نفسك". ولكن لدى مونتين، ليست تأكيدًا وجوديًا للحاجة إلى معرفة "من نحن"، وإنما هي حالة مستمرة من التساؤل عن المناطق التي تنطلق من خلالها أذهاننا والمنطقة المجهولة التالية. يضيف مانغويل "وضع مونتين لي خريطة فضولي التي امتدت إلى أزمنة مختلفة وأماكن كثيرة. يعترف بقوله الكتب مفيدة بالنسبة لي، تَعْلِيمات أقل وتعليم أكثر، وهذا هي حالتي تمامًا … عند تأمل عادات القراءة لدى مونتين أجد أنه من الممكن الإجابة عن سؤال ماذا أعرف؟ باتباع طريقة مونتين نفسها، وهي اقتباس الأفكار من مكتبته فقد قارَن نفسَه كقارئ، مع نحلة تجمع اللقاح لصنع العسل. ويتفق مونتين مع الرأي القائل: إننا نتخيل من أجل الوجود، وإننا فضوليون من أجل إشباع رغباتنا وخيالنا. فالخيال، كنشاط إبداعي أساسيِّ، لا يتطور من خلال النجاحات الروتينية والتفكير البسيط الذي لا يؤدي إلى شيء جديد، بل يتطور بالممارسة، من خلال المحاولة والخطأ وإعادة المحاولات مرارًا وتكرارًا. إنَّ تاريخ الفن والأدب، والفلسفة والعلوم هو محصلة لتلك الإخفاقات النيرة. • ماذا بعد؟ يرى مانغويل أن ثمة تجارب مشتركة في حياة معظم القراء هي الاكتشاف، فقد يفتح كتاب واحد مجالاً لاستكشاف الذات والعالم، هذا الكتاب قد يكون منبعًا متدفقًا ولكنه في الوقت نفسه يجعل العقل يركز على أصغر التفاصيل بطريقة حميمة وفريدة. يقول: "هذا الكتاب الفريد يتغير مرات عديدة وعلى مدى حياتي، من مقالات مونتين، وآليس في بلاد العجائب، إلى قصص بورخيس، ودون كيشوت، وألف ليلة وليلة، والجبل السحري. أما الآن، وأنا أقترب من السبعين، فأرى أن الكوميديا لدانتي هو كتابي المفضل الذي يجمع بين طياته كل ما سبق". لذا يخصص له فصلا مستقلا، مفتتحه السؤال الصعب "ماذا بعد؟" وهو يرى أن الكوميديا ليست تمرينا في الموت بقدر ما هي تمرين للذاكرة، “فلكي يعرف ما الذي ينتظره نرى دانتي البشري الفاني، يسأل أسئلة أولئك الذين خضعوا لتجربة الفناء، ذلك ما يدفع إليه الفضول". وقد قرأ مانغويل الكوميديا قبل أنْ يبلغ الستين بقليل، ومن القراءة الأولى أصبحت بالنسبة له "كتابا شخصيّا، بل إنه كتاب ممتد الأفق، وفي وصف هذا الكتاب بأنه ممتد الأفق هو نوع من التعبير عن رهبة هذا العمل الأسطوري: عمقه، واتساعه، وبنائه المعقد". ويستعرض تشبيهات الشعراء للكوميديا فجيوفاني بوكاتشيو شبهه بالطاووس الذي يغطيه ريش قزحي بألوان متدرجة لا تُحصى. وقارنه بورخيس بتفاصيل النقش اللا متناهية، لكن لم تفلح أيٌّ من هذه التشبيهات في أنْ تعِّبر بصدق عن الكمال، والعمق، والامتداد والموسيقى والصور المتلونة، والإبداع اللا نهائي، والبناء المتوازن. وكما أشارت الشاعرة الروسية أولجا سادكوفا أنَّ قصيدة دانتي "فن يولّد فنًّا" و"فكرة تولّد فكرة" ولكن الأهم من ذلك، أن الكوميديا "تجربة تولّد خبرة". (خدمة وكالة الصحافة العربية)
مشاركة :