يقولون إن من زاد علمه زاد همه.. وإنّ ذا العقل يشقى في الجحيم بعقله، بينما ذو الجهالة في الشقاوة ينعم.. فهل هذا الكلام صحيح؟ هل زيادة العلم والثقافة تؤدي بالضرورة للتعاسة؟ تبدو الإجابة مركّبة بعض الشيء.. فمن ناحية يمكننا الأخذ بمفهوم «الواقعية الاكتئابية». أي أن رؤية الواقع كما هو من دون تزييف، مرتبطة بشكل ما بأعراض الاكتئاب، وهو ما تؤيده تجارب نفسية عديدة.. حيث وجدوا أن المكتئبين أكثر واقعية في تقييم الأمور، بينما يتفاءل السعداء ويعتقدون أنهم أكثر تحكماً في مجريات الأمور ويكونون أكثر ميلاً للمقامرة والمخاطرة.. فهل فهم الواقع كما هو، مرتبط بالاكتئاب؟ وما يؤيد هذا الطرح أننا نحتاج إلى بعض الأوهام للتمتع بصحة نفسية جيدة.. وهذا ليس كلاماً فلسفياً، بل إن «الأوهام الإيجابية» مصطلح علمي منضبط في دراسات الصحة النفسية.. فالتفاؤل - مثلاً - ضروري للصحة النفسية، لكنه يصنف - في الوقت نفسه - كنوع من الأوهام الإيجابية! لأنه يتوقع مستقبلاً محدداً في غياب الأدلة الموضوعية التي تدعم هذا التوقع! كما أن اتساع الرؤية، بالمعرفة والعلم، يزيد مشاعر اغتراب المثقف عن مجتمعه، بل وأفراد أسرته أحياناً.. وفي ذلك معاناة حقيقية إن لم يجد من يشاطره هذه الأفكار.. أغلب رواد الفكر الذين خلدهم التاريخ، نبذهم معاصروهم بسبب بطء تطور الوعي العام.. لذا صيغت الحكمة: ويل لمن سبق عصره زمانه! لو كان الإنسان مثقفاً دائم التعلم وطرح الأسئلة وتحديث الأفكار، فإن هذا قد يؤدي - كما نرى أحياناً - للتكبر والاستعلاء المعرفي، وهي آفة تصيب العقل أحياناً.. وتجعل الشخص أكثر تنفيراً لمن حوله، ومن ثم أكثر انعزالاً في برجه العاجي، وبالتالي أكثر وحدة وتعاسة. هل معنى جميع ما سبق أن المثقف قد كتبت عليه المعاناة؟ ليس بالضبط! من وجهة نظري، أجد من الضروري على أي مثقف أن ينتج فكراً.. أن يكتب أو يحكي أو ينتج شيئاً بالمعلومات المتصارعة في ذهنه كي لا يجن.. لهذا يجد الكثير من الكتاب والمؤلفين في الكتابة نوعاً من العلاج النفسي لهم.. ترتيب الأفكار مريح.. تلقي المعلومات كمستهلك يصيب بالتخمة، ولا بد من إنتاج مخرجاتك الخاصة.. كما أن هذا يقضي - نسبياً - على التكبر والاستعلاء المعرفي للمثقف.. فقد يكون ناقداً حاداً لما حوله، متأففاً من كل الإنتاج الفكري والأدبي.. حسناً.. ماذا لو نزلت الملعب إذن كي ترينا نفسك؟! ما هي الحلول التي تقترحها؟ ما هو الكتاب الذي كتبته أو الرواية التي ألّفتها كي توضع جنباً إلى جنب مع ما تنتقده؟ خوض تجربة إنتاج الفكر، يجعل المثقف يدرك حجمه الحقيقي، فيتحلى بالتواضع المعرفي.. مدركاً أنه ليس كلي المعرفة كما توهمه الأفكار المتناثرة في ذهنه! كما أن جعل أفكاره هذه تحتكم للواقع «بتطبيقها في مشروع مثلاً أو طرحها على الناس واستقبال آرائهم..» يهبط بالأفكار الحالة على أرض الواقع.. بالإضافة لذلك، فإن صياغة الأفكار وإنتاجها، يساعدان في تكوين قاعدة من المهتمين بما يقوله.. وهو ما يصنع دائرة علاقات اجتماعية ضرورية لصحته النفسية. أضف إلى ذلك، أن المثقف يجد متع حياة لا يجدها الإنسان العادي.. متعة طرح الأسئلة ورحلة البحث عن إجابات.. متعة قراءة كتاب يوقظ مناطق جديدة في العقل.. متعة التنزه في معرض فني أو حضور فعالية ثقافية.. كلها أمور في متناول اليد، لأنها - ولنكن واقعيين - ليس لها جمهور عريض بين العامة! لذلك لن يكون المعرض الفني مزدحماً وستأخذ وقتك في الاستمتاع بما فيه! بالإضافة إلى ذلك، يمكن الاستعانة بأوهام إيجابية تناسب كل شخص حسب تطوره الفكري والمعرفي.. التفاؤل والتطلع لغدٍ أفضل للإنسانية - مثلاً - قد لا يكون الدليل عليه حاسماً، لكنه يدفعنا لصنع هذا المستقبل أو المساهمة فيه، كنبوءة تحقق نفسها.. كما أنه مفيد لصحتنا النفسية وسعادتنا في الحياة.. فهل من العقل.. رفض شيء مفيد لصحة العقل؟
مشاركة :