تخلّت يمنى عن هوايتها المفضلة وهي الجري لمدة ساعة صباحاً قبل التوجّه إلى العمل. فإذا كان عدم توافر مساحات عامة وانتشار النفايات على الطرق غير كافٍ، فللمعاكسة الحصة الأكبر في منعها عن مزاولة النشاط الأحبّ إلى قلبها. لفترة طويلة تقبّلت يمنى أن تسمع كلمات «تمدح» جمالها خلال مرورها في الشارع، لكن الأمور زادت عن حدّها حين عاكسها شابان وحاولا أن يمنعاها من الجري وأن يغرياها بالجلوس معهما. هربت يمنى نحو منزلها وهي تتلفت وراءها في كل لحظة لترى إذا كان هناك من يلاحقها، وحين وصلت أقسمت بعدم الخروج للجري أو حتّى للمشي في الشارع وحدها، لأنّ المعاكسة بالكلام أصبحت موضة قديمة ويبدو اليوم أنّ هناك نوايا أخرى عند شبان منتشرين في الشوارع والأحياء غير لفت انتباه الفتاة. وتردّ يمنى المشكلة بأساسها إلى البطالة التي تحكم الشارع الذي تعيش فيه، فهناك رجال كثر عاطلون من العمل يجدون في المعاكسة تسلية لهم بغض النظر عن تأثيراتها على النساء والفتيات. وما مرّت به يمنى تجربة من عشرات التجارب التي بدأت تظهر في شكل لافت في المجتمع اللبناني. فصحيح أنّ المعاكسة من الظواهر التي طالما كانت موجودة وهي اليوم منتشرة في بلدان عربية عدة، لكن تحوّلها تدريجاً نحو التحرّش اللفظي وحتّى الجسدي يطرح تساؤلات كثيرة عن إمكان التساهل معها باعتبارها ظاهرة بريئة. طريقة للأذى المعاكسة التي كانت تعتبر طريقة للتعبير عن الإعجاب وربما لفت نظر الفتيات، أصبحت في لبنان طريقة للأذية بما يشمل فحش الكلام والسلوكيات التي ترافقها أيضاً. فلا يكاد يمر يوم على أي من اللبنانيات إلا ويرين بأم العين رجال وشباب يستوطنون الأرصفة مع النراجيل وطاولات القهوة ويسخّرون وقتهم لإسماع النساء من مختلف الأعمار كلمات يُقصد بها المديح، لكنّها تحمل معاني نابية وتعّبر عن أفكار خاطئة حول المرأة ودورها في المجتمع. ويمكن للأمور أن تذهب أبعد من ذلك حين يبدأ بعضهم بمطاردة النساء في السيارات من منطقة إلى أخرى، مع كل ما يحمله ذلك من مؤشرات لخطورة هذه الآفة. أما التبريرات التي تُعطى من قبل الأشخاص الذين يقومون بالمعاكسة فتستدعي الوقوف عندها، فهناك أولاً تبرير أنّ ذلك فيه تســــلية للرجل وهو لديه ميل غريزي لهذا المــوضوع أي التقرّب من النساء. فيما التبرير الثاني هو أنّ المرأة تحب المعاكسة ولو أنكرت ذلك علناً، والدليل أنّ بعضهن يرتدين أزياء مغرية تستعدي المعاكسة. إلا أنّ هذه الحجة ترفضها النساء اللواتي التقت بهن «الحياة»، إذ يعتبرن المعاكسة خصوصاً في صيغها المبالغ بها حالياً، اعتداء صريحاً على حريتهن الشخصية وقدرتهن على التنقّل في الشارع بسلام ومن دون مضايقات. أما موضوع الملابس فيجدن فيه تفكير رجعي، لا سيما أن كثيرات من المحجّبات واللواتي يرتدين أزياء محافظة يتعرّضن للسلوكيات ذاتها، ما يعني أنّ الأمر مرتبط بالعقلية وليس بالفتاة نفسها. ويضاف إلى ذلك ما يحدث أمام المدارس حيث ما أن تخرج فتيات بعمر المراهقة مرتديات الزي المدرسي، حتى تبدأ المعاكسة من شباب يكبرونهن سنّاً، ما يُظهر أيضاً أنّ الأمر لا يرتبط دائماً بملابس الفتاة أو إظهارها أي رغبة في أن تتمّ معاكستها. فراغ قاتل مختلف الآفات الاجتماعية سواء المعاكسة أو المخدرات، إدمان الكحول وغيرها تبدو وكأنّها تنهل من مصدر واحد: الفراغ، وهذا ما تؤكده الاختصاصية الاجتماعية منى فيصل، إذ ترى في ظاهرة المعاكسة التي تتحول يوماً بعد يوم إلى تحرّش لفظي وصولاً إلى الجسدي، تعبيراً صارخاً عن الفراغ القاتل الذي تعيشه فئة كبيرة من الرجال خصوصاً من هم في عمر الشباب، فيجدون أنفسهم من دون عمل والأبواب موصدة أمامهم. لذا يحاولون إضاعة الوقت بأي طريقة كانت، وغالباً ما يشمل ذلك التجمّع في نقاط معيّنة ضمن الأحياء وشرب القهوة مع الشيشة ومعاكسة الفتيات والنساء بما يشعرهم بالرجولة والقوة والقدرة، وهي مشاعر تنقصهم مع إحساسهم بعدم القدرة على الإنتاجية. وتستبعد فيصل إمكان السيطرة على هذه الظاهرة إلا بانخراط الشباب في سوق العمل، وأن تكون لديهم هوايات أيضاً يزاولونها في أوقات الفراغ، من دون أن ننســى أنّ لتأخر سن الزواج المرتبط مباشرة بالبطالة دور أساسي في تحفيز هذه الظاهرة. وبالتالي، لا يمكن اعتبار المعاكسة أمراً بسيطاً وطبيعياً يحدث في المجتمعات، فمع تخطيها الخطوط الحمر لا بدّ من ضبطها عبر إيجاد حل لأزمة البطالة، التي لا تستثني أي منطقة في لبنان.
مشاركة :