يراقب العالم باهتمام موجات اللاجئين المتدفقين من الشرق نحو أوروبا وغيرها من الوجهات، لكنه لا ينتبه جيداً الى «هجرة» معاكسة تنطلق، في الوقت ذاته تقريباً، باتجاه البلدان الأصلية، التي هرب منها اللاجئون لأسباب مهمة. هي ظاهرة غريبة أراد الوثائقي التلفزيوني السويدي «العائدون» رصدها على وجه السرعة من دون انتظار تكملة الجوانب التحليلية من موضوعه الذي أُريد له أن يأخذ طابعاً آنياً يتحمل التوسع والاشباع في برامج لاحقة. كان عليه التحقق أولاً ما إذا كانت حركة عودة بعض طالبي اللجوء الى بلدانهم التي أتوا منها، وسحب طلبات لجوئهم يمثلان ظاهرة لا حالة محدودة، فتوجهوا الى دائرة الهجرة التي أكدت ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الراغبين في سحب طلبات لجوئهم والعودة الى أوطانهم. فخلال أشهر قليلة بلغت أرقام العائدين آلافاً وهي في تصاعد وقد سجل البرنامج بعضاً منها حيث يظهر فيها أشخاص وهم يوقعون على أوراق سحب طلباتهم برفقة مترجمين نقلوا لهم على لسان موظفي دائرة الهجرة ما تعنيه خطوتهم قانونياً وما يترتب عليها من اجراءات من بينها حق الجهات الرسمية اصدار قرارات طردهم من البلاد بعد إزالة أسباب تواجدهم على الأراضي السويدية! لفهم أفضل للظاهرة الجديدة وأسبابها رافق البرنامج طالب اللجوء السوري سامر حيدر وهو يتابع قضية سفره من السويد الى تركيا حيث فقد هناك بقية أفراد عائلته وهو يريد جمع شملها ثانية من خلال ذهابه الى هناك والبحث عنهم، فبقاؤه في السويد وانتظار البت في طلبه قد يأخذ وقتاً طويلاً يضاعف قلقه على عائلته واحتمال ضياعها. إذاً هذه بعض الأسباب التي تدعو الى العودة: طول مدة الانتظار وصعوبة لمّ شمل العائلات. وعنها يقول أحد الشباب المتطوعين لمساعدة اللاجئين واسمه محمد بريكار: «أكثر العائلات في منطقتنا يُعيلها الرجل وفي حال غيابه عنها يصعب على العائلة وبخاصة الزوجة والأطفال تدبير أمورهم». قصة سامر لم تنتهِ خلال أيام قليلة كما تصور، لأن جواز سفره الأصلي قد ضاع بين أكوام الجوازات والوثائق المحفوظة في دائرة الهجرة، ما أجبره على العودة الى المعسكر الذي يقيم فيه لحين العثور عليه. اضافة الى بعده عن دائرة الهجرة في استوكهولم يفتقد المعسكر لشروط العيش العادية، كونه في الأساس بني كـ «أكواخ سياحية صيفية» حولتها الدائرة، لاستيعاب الاعداد الكبيرة الواصلة الى البلاد، الى أماكن إقامة حشرت في كل كوخ ثمانية أشخاص، الى جانب عدم توفره على مرافق صحية وحنفيات الماء الصالح للشرب موجودة خارجه. مشهد الأكواخ في عمق الغابة الباردة والموحشة يعطي تصوراً عن الحالة النفسية للاجئ واحساسه بالعزلة التي ربما قد تدفعه للتفكير بترك البلاد والعودة من حيث أتى. فأحلام السكن المريح والخدمة الجيدة والانجاز السريع للمعاملات تتبخر عملياً وتحل محلها الرغبة في ترك المكان. وهذا ما عكسته تجربة بعض العراقيين العائدين، ومن بينهم عمر علي الذي التقاه البرنامج أثناء توجهه الى المطار. من حديثه يظهر أنه أب لخمسة أطفال ومعاملته لم تسر وفق ما كان ينتظره. «المشكلة أن المحققين السويديين يعتبرون الموصل وديالى والأنبار هي المناطق الوحيدة الخطيرة في العراق بسبب وجود «داعش» فيها في حين أن بقية المدن لا تقل خطورة في الواقع عنها ويمكن المرء أن يتعرض فيها للموت في أي لحظة بسيارة مفخخة أو عبوة ناسفة!». هجرة العراقيين المعاكسة تتجلى سعتها من خلال رصد البرنامج لحركة نقل المسافرين من مطار آرلاندا الى بغداد. فخلال كل سبت يرجع عشرات العراقيين من السويد الى بلادهم. ضعف أسباب طلب اللجوء وطول الانتظار يدفعان بعض من غامر بحياته الى ترك البلاد التي وصل اليها بعد عناء ومشقة، وهذا ما يدفع المتطوع لمساعدة اللاجئين يرغن بيرماك للحزن. «بعد رحلات طويلة محفوفة بالأخطار وبعد دفع مبالغ كبيرة للمهربين، يصل المهاجر الى هنا، لكنه وخلال ساعات قصيرة بالطيران يعود الى المكان الذي هرب منه خوفاً على حياته». أثناء نقله مجموعة عراقيين في طريقهم الى المطار يسمع معد البرنامج العائد حسين علي وهو يردد بصوت خافت أغنية حزينة تتحدث عن الوطن البعيد ومرارة الهجرة. أغنية تعبر عن رحلته الخائبة التي انتهت الى حيث ابتدأت.
مشاركة :