«إنّ أدنى مراتب الجحيم مرصودة لمن يتخذون موقف الحياد في القضايا ذات البعد الأخلاقي» اليغريي دانتي من الكوميديا الإلهية «لن يصلح الحكم إلا إذا أصبح الفيلسوف حاكمًا أو الحاكم فيلسوفًا» أفلاطون عن المدينة الفاضلة. «المتوسط الذهبي» في الفلسفة الإغريقية يستند إلى شروحات أرسطو في الأخلاق التي يفترض أنها تقرّب البشر من الفضيلة، وبالتالي تساهم في بلوغ السعادة. يقول أرسطو ان المتوسط الذهبي هو الاعتدال في الشيء من غير إفراط أو تفريط، أي أنه الوسط المرغوب بين النقيضين أو القطبين، أحدهما هو مبالغة والآخر يعتبر تقصيرًا. على سبيل المثال، وبحسب وجهة نظر أرسطو، فإن الشجاعة هي فضيلة، لكنها إن زادت عن حدها يمكن أن تصبح تهوّرًا وفي حال النقصان تصبح جبنًا. هذا الأمر يترك بالطبع مساحة واسعة للاستنساب بين نقيضين، وهنا، تدخل الأمور بالشخصانية الفاقعة البعيدة عن الموضوعية والمبدئية في تقييم الأمور. إيمانويل كانت، الذي شكّلت فلسفته في القرن الثامن عشر الحد الفاصل بين فلسفة الماضي والحاضر، اعتبر أنه هناك قواعد أخلاقية سمّاها «الضروريات القاطعة»، وهي التي يجب أن يتّبعها البشر جميعهم من دون استنساب أو استثناء. أتت فرضية «الضروريات القاطعة» لدى إيمانويل كانت لتضع حدًا للاستنساب الدائم المرتبط بالمصالح الشخصية والظرفية. فقد كان الفيلسوف مقتنعًا بأن مبدأ «السلام المستدام بين البشر والدول والشعوب يمكن تحقيقه من خلال قواعد أخلاقية مُصانة من قبل الجميع. من هنا، فإنّ وضع الدساتير والقوانين المستندة إلى الضروريات القاطعة أتى لتأمين القدر الأقصى من السلام المستدام وذلك من خلال تأمين مرجعية ثابتة يمكن العودة إليها عند الاختلاف في الاستنساب. بالعودة إلى الطروحات الغريبة التي تتحدث عن رئيس توافقي، أو لمن يرغب التمايز فيتحدث عن رئيس غير صدامي، وهو الصفة التي أطلقها التغييريون على من يرغبون في ترئيسه، على سبيل التمايز الصفاتي ليس إلّا، لكن مضمون الصفتين يبقى سابحًا في مجال الاستنساب. لكن، حتى ولو افترضنا أنّ السياسة استنساب دائم، تبقى الضروريات القاطعة خارج مجال الاستنساب، يعني الدستور والمصلحة العامة والشرعيات الدولية التي تضمن وحدها ما أمكَن من مصالح الشعوب والدول المستضعفة. بالطبع، فهناك الكثير من التشكيك بنجاعة الشرعيات الدولية في حماية الشعوب من الانتهاكات المتكررة من قبل المستكبرين، لكن استتباع الشعوب لمعسكر الدول الفاشلة وذات الطابع العدائي غالبًا ما تكون تبعاته أسوأ بكثير، والعراق وسوريا واليمن أمثلة صارخة لهذا النوع من الاستتباع، ولا أظن أن أمثلة كوريا الشمالية وفنزويلا يمكن الاستنارة بتجربتهما العظيمة، علمًا أن بعض الممانعة يتغنى بهما، لكن إن أرادوا لأولادهم أن يدرسوا في جامعة محترمة تؤمن لهم مستقبلًا مقبولًا، ستكون وجهتهم إما دول الصف الأول الأوروبية، أو أميركا الشمالية. لكن، لنعد إلى تحليل قضية الرئيس التوافقي وغير الصدامي. فهذا النوع من الرؤساء عليه أن يتقبّل الأمر الواقع السياسي والأمني، وأن يسعى رغم كل ذلك لكي يحارب الفساد والتهريب وتبييض الأموال وتجارة المخدرات ويقنع العالم بأهلية لبنان لتلقّي المساعدات ومن ثم بأنه أرض خصبة للاستثمار ليستعيد النشاط الاقتصادي زخمه، وبالتالي يعوّض للخزينة وللناس بعضًا من خسائرها. فبظل فقدان السيولة المتعددة الجنسيات بسبب وضع المصارف والمصرف المركزي وفقدان الاحتياطي، لا يمكن للاقتصاد المحلي الطابع أن ينطلق ولو برجل واحدة. وأعني بذلك المبادرات الصغرى والمتوسطة، وتبقى دورة الاستهلاك الاقتصادية مبنية على كرم أصحاب الهِمم من المهاجرين الذين ما زالوا يعطفون على أقربائهم. هذا لا يعني أن البلد خال من الثروات التي يمكنها أن تتحول إلى استثمارات. لكن أصحاب الثروات، كما نعرف، هرّبوها من دورة الاقتصاد المحلي للحفاظ عليها، وسيكونون، بحسب اعتقادي، آخر من سيستثمر في لبنان. هذا كله يعني أن المخرج الممكن هو الاستناد، ولو في الانطلاقة، إلى مساعدات من صندوق النقد الدولي، مرفقة باستثمارات عربية خليجية، أو ربما من دول أخرى، تدخل في مجالات شتى. لكن كل المعطيات أكدت أن هذه الاحتمالات مربوطة برئيس حكيم مستعد للمواجهة مع المعطيات الداخلية مع كل ما يُعيق عودة الدورة الاقتصادية من أسباب سياسية وفساد وسلاح واستتباع لمحاور عسكرية... وهذا سيفقده حتمًا صفة الرئيس غير الصدامي والتوافقي، لأن هذا النوع من الرؤساء يعني قبول الأمر الواقع، والتوافق مع الهدر والتهريب وتجارة المخدرات وتبييض الأموال واستتباع لبنان لمحور إيران، كما التسامح مع مصالح الطوائف في الفساد الإداري والعقاري واستباحة الأملاك العامة والخاصة لتجنّب هزة في مشروع الشراكة الوطنية القاتلة. هذا النوع الذي ينادي به الثنائي الشيعي، أي التوافقي، وتوأمه المدعو رئيسًا غير صدامي، أو من منظومة عدم الانحياز لطرف دون آخر، كما ينادي التغييريون، هو الرئيس الذي يستنسب ما بين الدولة والميليشيا، وبين السيادة والاستتباع، وبين القاتل والضحايا، ما بين الهاربين والساعين إلى الرزق الشرعي، ما بين تجار الموت والمستثمرين الذين يسعون لتوسيع قاعدة الاقتصاد. هم أيضًا من يصنفون الرابع عشر من آذار في المقام ذاته مع الثامن من آذار، وهو تصنيف غبي إن صفت النيات، ومتآمِر إن كان عن سابق معرفة. فالرابع عشر من آذار كانت مسألة تتخطى الأحزاب التي شاركت لاحقًا في السلطة وتشاركت مع الفساد والسلاح. فهي حالة كانت تحلم بوطن ودولة هي عكس ما شاركت فيه أحزاب انتمَت للرابع عشر من آذار، فخرجت تلك الأحزاب من 14 آذار وبقي فيها الحالمون من أطياف شتى. أما الثامن من آذار، فهي تختصر بـ»حزب الله» وأتباعه من السياسيين الفاسدين سياسيًا على الأقل، والفاسدين ماليًا وأخلاقيًا في معظم الحالات، حتى وإن كان بعضهم يومًا ما من أركان الرابع عشر من آذار. فهؤلاء، في رقابهم دماء الشهداء الذين تاجروا بهم وساوَموا على تضحياتهم من أجل السلطة والفساد، وتَشاركوا مع أركان الثامن من آذار في تدمير ما تبقى من الدولة حتى وصلنا إلى انفجار المرفأ وتشظي مدّخرات الناس وفقدان الأمل والانتحار في مراكب الموت وبيع خطوط الحدود لتغطية التفليسة. هؤلاء الموصوفون بالرابع عشر من آذار هم عمليًا من محازبي الثامن من آذار من الناحية العملية. قد يكون من المنطقي لمن لا يحمل مشروعًا محددًا غير العناوين البراقة، ويريد فقط أن يظهر بأنه «غير» الآخرين، أن يستسهل طرح الشعارات الشعبوية ليؤكد أن «كلن يعني كلن»، لكنه بالعميم يميع القضية ليتجنب أخذ موقف واضح ومحدد يضع الإصبع على جرح العورات، ولا يختبئ تحت شعار «رئيس غير صدامي وغير منحاز» أي الهائم بين الحق والباطل وبين الصح والغلط. نحن بحاجة لرئيس يعلن على الأقل الموقف المبدئي بالانحياز إلى «الضروريات القاطعة» لوجود الدولة، أي صدامي وغير توافقي.
مشاركة :