تعد الأعياد والمناسبات الوطنية محطات مهمة في تاريخ الشعوب والأمم، فخلالها يتم تجديد الأواصر بين قيادة البلاد وعامة الشعب، كما أنها - بلغة العصر - استطلاع للرأي، شعبي تلقائي، من المواطنين تجاه قيادتهم. ففي مظاهر البهجة والسرور والحبور التي تطبع البلاد طولا وعرضا أكثر من رسالة، إلى الخارج قبل الداخل، عن التلاحم القوي في بنيان الدولة، من قمة الهرم السياسي إلى عموم المواطنين. كما أنها كذلك فرصة لغرس قيم الوطنية بين الناشئة، فاستحضار صفحات من التاريخ الوطني المجيد، برمزياته الكبرى تحفيز للذاكرة، وشحن للأنفس والهمم، وتعزيز للروح الوطنية للأجيال المتعاقبة. تعد ذكرى البيعة إحدى المحطات المثلى لذلك، لما تحمله من دلالات رمزية، دينية ووطنية، من شأن تنويع مظاهر وطرق الاحتفاء بها، أن يسهم في إشاعة حس الانتماء إلى الدولة، ويرسخ في النفوس الاعتزاز والفخر بالوطن. بعيدا عن الشعارات الجوفاء والأيديولوجيا الخرقاء، وأوهام وأحلام المذهبية والطائفية، تبقى المنجزات والحصاد الكلمة الفصل في مثل هذه المناسبات، فالأداء والفعل في الواقع، أقصر السبل لإقناع مواطني اليوم، شيبا وشبابا، بالبرامج والخطط والاستراتيجية. لدى المملكة ما يكفي وزيادة من الشواهد والأحداث التي ينبغي التذكير بها في مثل هذه المحطات. دون استغراق في المنجز الداخلي، الذي راكمت فيه المملكة في الأعوام الأخيرة الشيء الكثير جدا، وذلك تقيدا بالمثل العربي القائل "أهل مكة أدرى بشعابها"، يكفي أبناء وبنات السعودية فخرا أن الرياض استطاعت - بفضل الرؤية الحكيمة للقيادة الجديدة في المملكة - أن تنتزع من كبرى العواصم المركزية في صنع القرار الإقليمي والعالمي، فلا يكاد الأسبوع ينقضي دون أن تسجل تمثيلية دولية من العيار الثقيل حضورها في الدولة. وليس من المبالغة في شيء، القول إن قادة الدول الكبرى "أمريكا، ألمانيا، بريطانيا..." يمموا المملكة بحثا عن حلول لأزمات قائمة ومشكلات راهنة، وأحيانا طلبا للدعم والمساندة درءا لاضطرابات وفوضى في الأفق. مركزية دولية متزايدة تضاف إلى مركزية عربية وإسلامية محفوظة للمملكة بحكم شرعية التاريخ والمواقف، تجعل المملكة العربية السعودية اليوم فاعلا في صياغة وصناعة الحدث على المشهد الدولي. في ذكرى البيعة، يكفي السعوديين والسعوديات اعتزازا أن السعودية انتقلت من قوة مساعدة "لاعب إقليمي" نحو لعب دور مركزي "لاعب دولي" في الساحة الدولية. نجحت المملكة في تحقيق هذه المكانة الدولية المهيبة، بهدوء وروية دون حاجة إلى العبث بأمن دول أخرى، ولا صناعة وكلاء لها خارج حدودها من باب إظهار السيطرة والنفوذ. عكس ذلك تماما، يتجه زعماء الدول من الجهات الأربع للعالم نحو الرياض، إيمانا منهم بباع المملكة الطويلة في الدبلوماسية الناعمة، فقد بدا لافتا خلال حكم الملك سلمان حضور أدوات القوة الناعمة في الدبلوماسية السعودية، من خلال رعاية وتقديم المبادرات، والحرص على تسوية الخلافات، والسعي إلى التهدئة والوساطات الإنسانية... وحتى تقديم الدعم المالي لبعض الدول، لتجنيبها الإفلاس والانهيار الاقتصادي. أدركت القيادة الجديدة في المملكة أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، وأن ما جرى في العالم العربي 2011، كشف بالدليل القاطع أن سياسة الولاءات والمحاور الدولية مجرد غطاء من القوى الكبرى للابتزاز، وانتزاع أكبر قدر من المنافع والمكاسب من بقية الدول، فقررت تغيير استراتيجية العمل الدبلوماسي، في تناغم وانسجام تامين مع "رؤية 2030"، التي شرعت في تغيير معالم المملكة العربية السعودية. فاختارت الارتكاز على دبلوماسية الفعل والمبادرة، بدل الانتظارية ورد الفعل، وكان الحصاد ما يعين أمامنا اليوم، من ريادة ومركزية ونفوذ دولي. ليس بدعا من القول إن السعودية على موعد ولادة متجددة، مع رؤية 2030، فما تحقق في زمن قياسي منذ إطلاق الرؤية إلى اليوم، عجزت دول أخرى عن إنجاز نصفه أو ربعه خلال عقود من الزمن. يقال في الدارج العربي إن "المناسبة شرط"، ومناسبة ذكرى البيعة لا تستقيم دون الإشادة بهذه الرؤية، التي تظهر لكل مراقب خارجي أن السعودية ماضية في مسار النهضة والتحول والارتقاء، من أجل فرض حجز مكانة لها بين الكبار، دفاعا عن الذات أولا، وحديثا باسم المستضعفين من دول العالم، بلا ابتزاز ولا مقايضة، كما هو ديدن الدول الكبرى لعقود من الزمن.
مشاركة :