ماجد كيالي يكتب: قراءة مغايرة لظروف انطلاق الكفاح المسلح الفلسطيني

  • 10/28/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لعل معظم الكتابات التي أرّخت لظهور الفصائل الفلسطينية المسلحة لم تطرح على نفسها الأسئلة الواجب طرحها، عن ظروف النشوء، والامكانيات، والمعطيات، إذ إنها في الأغلب غرقت في تفسير ظهور الفصائل بإحالة ذلك إلى الضرورة التاريخية، وإلى إيمان الشعب الفلسطيني بقضيته، وتبلور طلائع كفاحية أخذت بيدها زمام المبادرة. بيد أن ما زاد تلك المسألة غموضاً، والتباساً، هو غياب التأريخ السياسي لدى الفصائل ذاتها، سيما فتح، إذ لا تعثر لقيادييها، أو في أدبياتها، عن أي رواية تتحدث بصراحة وواقعية عن الانطلاقة وظروفها، وعن كيفية فتح العلاقة مع هذا النظام أو ذاك، فكل الأدبيات والسرديات تحيل الأمر إلى الروح الثورية التي اتسمت بها الطليعة الكفاحية الأولى، بقيادة “فتح”، بوصفها القيادة التي أطلقت الكفاح المسلح الفلسطيني، إلى درجة الأسطرة عند البعض. في أي حال لا يوجد شيء يبدد ذلك الغموض، أو يملأ ذلك الفراغ، فمعظم قياديي تلك المرحلة لم يعودوا على قيد الحياة، والأنظمة المعنية لا يمكن أن تفصح عن السيرة الحقيقية التي وقفت وراء سماحها للفصائل الفلسطينية بالعمل من أراضيها، أو سكوتها عن ذلك. هكذا، لا مناص من معاودة قراءة تلك اللحظة التاريخية، والاجتهاد في تحليل المعطيات، الذاتية والموضوعية، التي أدت إلى ولادة الكفاح المسلح الفلسطيني بالشكل الذي ظهر عليه، وبخاصة بحكم الفترة القصيرة التي صعد بها، بقيادة حركة فتح. هكذا، فقد بدأت “فتح” بالعمل منذ منتصف الستينات، لكن ظل ذلك محدوداً، ومحسوباً، ويتركز في سوريا بشكل خاص، وأساسي، لكنه في تلك الفترة ارتبط بالتنسيق المباشر مع النظام السوري، بل كان ثمة ما يشبه قيادة مشتركة من “فتح” وممثلين عن النظام السوري بينهم الضابطين يوسف عرابي، وأحمد جبريل، بيد أن هذا “التنسيق” انقطع بعد مقتل يوسف عرابي (بظروف غامضة في أحد مكاتب فتح في أيار/ مايو 1966)، بعدها قام حافظ الأسد (وزير الدفاع وقتها) باعتقال أبو عمار وأبو جهاد ومعظم قياديي “فتح” في سوريا في ذلك الحين (افرج عنهم بعد أسابيع بمداخلات عربية). ولعل تلك الحادثة تفسر العداء التاريخي، السياسي والشخصي، الذي ظل يكنه الأسد لياسر عرفات (علماً أن الأخير كان يبادله المشاع ذاته)، كما تبين تلك الحادثة مسعى النظام السوري منذ البدايات للسيطرة على الحركة الوطنية الفلسطينية، بأي شكل، وهو ما أدى بياسر عرفات لإشهار شعاره عن استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، الذي أشهره أساساً ضد محاولات حافظ الأسد تلك. لم يكن بإمكان “فتح” أن تظهر بالشكل الذي ظهرت عليه كحركة كبيرة، وبفترة مبكرة، مع مكاتب ومعسكرات وأسلحة وقدرة على الحركة والتنقل لولا الدعم المالي الذي أغدقته عليها الدول الخليجية (السعودية والإمارات والكويت وقطر والإمارات)، بغض النظر عن الأغراض أو التوظيفات أو العوائد السياسية الناجمة عن هذا الدعم لحركة وطنية فلسطينية.   أدت التناقضات العربية (أواسط الستينات)، لا سيما المتمثلة بالتنافس أو التنازع بين المحورين الناصري (مصر)، من جهة، والخليجي المتحالف مع البعثي (سوريا) من جهة أخرى، إلى تصريف ذلك في دعم “فتح” بشكل خاص. هكذا تم التعامل مع قضية فلسطين كورقة في منازعات الأنظمة، فبينما كان عبد الناصر يركز على تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية (تأسست برعاية جامعة الدول العربية عام 1964)، وجدت الأطراف الأخرى في “فتح” ضالتها لمنافسة عبد الناصر ولتعزيز مكانتها وشرعنة سياساتها العربية. لعل العامل الأهم الذي يفسر شرعنة المقاومة الفلسطينية وسرعة صعودها، تمثل في التداعيات الناجمة عن النكبة الثانية (هزيمة حزيران/ يونيو 1967)، فبعدها لم يعد النظام العربي كما كان، وأضحت الأنظمة تبحث عن طريقة لامتصاص الغضب الشعبي، أو للتعويض عن هزيمتها، ما يفسر توجهها لدعم الحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف الوسائل، ما يفسر التحولات التي حصلت فيما بعد لصالح تيار الكفاح المسلح الذي قادته حركة “فتح”، لا سيما أن تلك الحركة، بفضل وحدة قيادتها، وديناميتها، استطاعت أن تستثمر في التناقضات العربية لتعزيز مكانتها، بخاصة في السنوات الأولى التالية لحرب حزيران، لكنها بعد ذلك خضعت أو امتثلت  لنظام العربي، بتخليها عن برنامجها الأساسي، المتعلق بالنكبة (1948)، وتحولها نحو إقامة كيان سياسي في جزء من أرض فلسطين لجزء من شعب فلسطين (في الضفة وغزة المحتلين عام 1967)، بعدما حققت ما تستطيعه بإمكاناتها، ووفق المعطيات السائدة، وبعد أن لم يعد لديها ما تضيفه. هكذا، فمن وقتها باتت الحركة الوطنية الفلسطينية تعيش على تاريخها، وعلى إنجازاتها المتحققة أواسط السبعينات، ودخلت في حالة ركود أوصلتها إلى اتفاق أوسلو، أي إلى سلطة تحت الاحتلال. تلك هي العوامل التي وقفت وراء ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة، وصعودها السريع، في بيئة عربية غير مواتية (بدليل إخراجها من الأردن بفترة مبكرة أي عام 1970، وتورطها في الحرب الأهلية اللبنانية في أواسط السبعينات ثم إخراجها من لبنان عام 1982 إثر الغزو الإسرائيلي له)، ومع ضعف الإمكانات المادية، وغياب الإقليم المستقل بحكم تشتت الشعب الفلسطيني وخضوعه لأنظمة سيادية مختلفة. لكن يجب ألا يفهم من ذلك الكلام أنه من دون تلك العوامل ما كان بإمكان الشعب الفلسطيني توليد حركة وطنية تمثله وتدير كفاحه، فالقصد هنا أن تلك الحركة بطبيعتها أو بالشكل الذي ظهرت عليه كانت مدينة إلى تلك الظروف، وبالأخص للأنظمة العربية التي مكّنتها، أو وظفتها، كما لنكبة حزيران (1967) التي شرعنتها وفرضتها. يفهم من ما تقدم أن الشعب الفلسطيني كان يمكن أن يولد الحركة الوطنية خاصته، لكنها كانت ستكون بمستوى الحركات الموجودة في البلدان التي ظهرت فيها، حيث ثمة تجمعات فلسطينية، كما بمستوى الحركة الفلسطينية في مناطق 48، والضفة والقطاع، لا أكثر.

مشاركة :