الليبرالية أو ما بعد الإيديولوجيات - محمد علي المحمود

  • 1/14/2016
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

يُقرّر عنوان هذا المقال طرحَ الليبرالية كبديل متجاوز لكل الإيديولوجيات المتصارعة على رأس المال الاجتماعي/السياسي. وبهذا يبدو – ابتداء - وكأنه ينزع عن الليبرالية صفة (الإيديولوجيا)؛ مع أنها لا تعدو أن تكون تَوجّها/تيارا/مذهبا فكريا يسعى إلى التغيير بواسطة الإقناع بحزمة من الأفكار المتعاضدة التي يجري الحشد لها باستمرار. فهل الليبرالية – كمبرر لطرحها خِيَارا بديلا - هي المقابل الضدي للأدلجة، وبالتالي، هي غير إيديولوجية من حيث طبيعيتها الأساسية، أم هي إيديولوجيا، ولكنها (إيديولوجيا اللاّإيديولوجيا)، ومن ثَمَّ، يصح طرحها كخيار للخروج من هذا الصراع المحتدم بين التيارات الشمولية السائدة في العالمين: العربي والإسلامي؟ الليبرالية تستعصي على الأدلجة، من حيث هي تستعصي على الشمولية، تلك الشمولية التي لا تتحقق الأدلجة إلا من خلالها. وإذا كان لا بد من توصيف الليبرالية كإيديولوجيا، فهي – تحديدا -: إيديولوجيا التحرر/ الاستقلال الفردي، أي هي إيديولوجيا التحرر من الإيديولوجيات التي تتضمن الشمولية ابتداء إذا كانت الإيديولوجيا في الأساس تعني – كمفهوم – منظومة من الأفكار التي تحاول أن تكون متسقة، بحيث تعبر عن رؤية تتغيا تفسير الواقع، أو تسويغه، أو تغييره، فإنها بالمفهوم المتداول/السلبي، تُطرح كمقابل للعلمية والتفكير العقلاني: الوعي الزائف. أي أنها بهذا المفهوم السلبي تعني ما هو أكثر من (منظومة أفكار، أو نسق فكري)، إذ لا بد – حتى ينطبق عليها هذا الوصف بالمفهوم السلبي الرائج – أن تكون الأفكار فيها أفكارا ذات بُعد عقائدي (ليس دينيا بالضرورة)، أي أن تتضمن مستوى من الدوغمائية التي تطرح نفسها كجزء من اليقين اللامسؤول، وأن تخترق الشرط العقلاني أو العلمي (كشرط لتحصين اليقين اللامسؤول)، وأن تتضمن عناصر خيالية وعاطفية تلامس المشاعر والعواطف والغرائز قبل العقول؛ كجزء من آلية الحشد الجماهيري، وأن تتضمن وُعودا طوباوية، بوصفها مشروعا يقدم بديلا متخيلا عن البؤس/الجحيم الواقعي أو المفترض. طبعا، كل هذا لا يتأتّى؛ ما لم تكن هذه الأفكار أفكارا شمولية، عابرة للفرد (للفرد، وليس من الفرد) إلى المجموع، ذلك المجموع الذي يجري الرهان عليه كقوة قادرة على إحداث التغيير، الذي هو - في الغالب - تغيير قصير النفس ولكنه حاد، تغيير ثوري يحرق المراحل؛ لأن كل المراحل، وبكل ضروراتها هي - في تصور هذا الإيديولوجي - داخلة في التصور العقلاني للواقع، وهو التصور الذي لا يحظى بأي تقدير من قِبَل الإيديولوجي/المؤدلج، بل وأكثر من ذلك، هو محل رفض ضمني، إذ يراه مُعيقا للفعل الجماهيري الانفعالي الذي يوجهه في كل الأحوال. هذه معالم/ملامح الإيديولوجيا، من حيث هي – في النهاية - وعي زائف. ولا ريب أن بعض صور الليبرالية تتضمن بعضا من هذه الملامح السلبية المرافقة لعمليات الأدلجة أيا كان نوعها. نحن نعرف أن في الليبرالية أفكارا طوباوية تتضمن منزعا حشديا بالضرورة، وبالتالي، فليس غياب العنصر الخيالي والعاطفي واقعا مُسلّما به في كل مسارات الترويج للأفكار الليبرالية. لكن، ومهما تلبست الليبرالية بشيء من هذه الملامح السلبية، إلا أنها تؤكد - أول ما تؤكد – على أن كل أفكارها ليست مكتملة ولا يقينية، بل هي أفكار مطروحة على بساط النقد/المساءلة في كل الأحوال؛ حتى مفهوم (الحرية الفردية) الذي يكون أساس الرؤية الليبرالية، يجري الاشتغال عليه نقدا وتطويرا داخل الفضاء الليبرالي؛ ما يعني أنه ليس ثمة دوغما تطبع أفكار الليبراليين، بما فيها الأفكار المؤسسة ذاتها، فضلا عن غيرها. إن النقد – كشرط عقلاني أولي – ليس ترفا في التقليد الليبرالي، بل هو فعل تحرري يشتغل داخل فضاء العقل الليبرالي على أوسع نطاق. بل إن اشتغال الليبرالي على نقد الليبرالية لا يقف عند حدود المتاح علميا وفكريا في لحظة زمنية ما، وإنما هو نقد يتجاوز ذلك، ليتفاعل - بجدية - مع أحدث ما ينتجه العقل البشري من نظريات، وما تنتجه مراكز الأبحاث من نتائج علمية في كل الحقول. وهذا بلا شك، يحدّ من اليقيني؛ حتى في نتائج العلوم التي يجري الاتكاء عليها في (ظرف نقدي)، أو في (واقعة نقدية)، ما يجعل (اليقينية) هنا، ظرفية/نسبية في كل الأحوال، فضلا عن كون هذا التفاعل الحيوي مع التطور العلمي والمعرفي يحد من البُعدين: العاطفي والخيالي، اللذين ترتفع حِدّتهما في كل الإيديولوجيات الشمولية، إلى درجة أن يكونا – بسلبيتهما - جوهرَ الخطاب. الأهم في كل هذا التفصيل، هو أن الليبرالية تتضمن - جوهريا - ما يحد من كونها إيديولوجيا بالمعنى السلبي. فهي - إن كانت إيديولوجيا – تبقى إيديولوجيا الفرد، من حيث هي في الأساس: إيديولوجيا الحرية الفردية. ولا يخفى أن الإيديولوجيا كي تتضمن كل تلك الملامح السلبية التي تحيلها في النهاية إلى وعي زائف؛ لا بد أن تكون شمولية، تشتغل على مفاعيل لا يمكن لها أن تتحقق إلا من خلال تأطير شمولي للأفراد. وهو التأطير الذي لا يتحقق إلا بانتهاك الفردية، فضلا عن انتهاك كثير من محددات العقلانية. إن الليبرالية، من حيث انحيازها المبدئي للفرد الحر المستقل، تتمرد على أي تأطير ينتقص من الاستقلال الفردي. وهذا ما يجعلها مناهضة لفعل التأدلج ذاته من حيث هو سلوك جمعي. الليبرالية تستعصي على الأدلجة، من حيث هي تستعصي على الشمولية، تلك الشمولية التي لا تتحقق الأدلجة إلا من خلالها. وإذا كان لا بد من توصيف الليبرالية كإيديولوجيا، فهي – تحديدا -: إيديولوجيا التحرر/ الاستقلال الفردي، أي هي إيديولوجيا التحرر من الإيديولوجيات التي تتضمن الشمولية ابتداء. وعلى هذا، فهي ليست المقابل المغاير لهذه الشموليات فحسب، بل هي المقابل المناهض لمبدأ الشمول، الذي لا بد أن يأخذ من الحساب العيني المتيقن للأفراد، لصالح الحساب المتخيل للجماعة المتخيلة؛ لتنتهي الجماعة (باستثناء القلة القليلة من أفرادها) إلى إفلاس إنساني على كل المستويات؛ فتنتقل من بؤس إلى بؤس، ولا تجد العزاء إلا في بضعة شعارات ليست في النهاية أكثر من أوهام. الشموليات بأنواعها هي مجرد شعارات، تبدأ بأوهام، وتنتهي بأوهام على مستوى واقع الأفراد. لا يمكن أن تنطلق من الجماعي لتصل إلى الفردي، بينما الفردي غائب عن أصل المعادلة. وهنا، لا شيء يتحقق، هذا إذا كنت تريد من الإيديولوجيا الجماعية تحقق شيء إيجابي في عالم الفرد، الذي هو العالم الحقيقي/الواقعي. وعلى العكس، فكل تحقق إيجابي في عالم الفرد، هو منجز حقيقي وواقعي، فضلا عن كونه يشكل – بالضرورة - إضافة إلى المجموع. ولا يغيب عنا في هذا السياق أن الليبرالية إذ تحد من طغيان المبدأ الشمولي بداهة؛ فإنها تحد من طغيان المبدأ الفردي أيضا؛ إذ تشترط تحرر الفرد بمبادئ إنسانية عامة وحاكمة، تكفل ذات الحق الفردي الخاص لكل الأفراد، ما يعني أن ثمة تزاحما/توازنا بين الحريات الفردية لصالح حرية كل فرد، ومن ثم، لصالح التحرر العام. إن العرب والمسلمين يعيشون عالما صراعيا مع أنفسهم ومع الآخرين، نتيجة هيمنة الإيديولوجيات الشمولية على مسيرة النهوض، وعلى مسيرة التحرر أيضا. وهذه الشموليات هي – بالضرورة – أصوليات، أو – على الأقل – تتضمن عناصر أصولية بدرجة ما، سواء أكانت دينية أم قومية. وهذا يعني أن الاشتغال الصراعي/الاحترابي ليس عرضاً طارئاً، بل هو مُكوّن أساسي فيها، بحيث لا تتحقق شرعيتها إلا من خلال صراع أو دعوة إلى صراع، سواء أكان صراعا بينيا مع مكونات الذات، أم كان صراعا مع الآخر، وسواء أكان صراعا عينيا/واقعيا، أم كان صراعا على مستوى الأفكار والتصورات وحجج الاتهام ذات المنزع الهجائي. لقد أصبح من الواضح أنه لا يمكن الخروج من هذه الأنفاق الصراعية الاحترابية التي تستنزف الطاقات العقلية والروحية والمادية، إلا بالانحياز إلى الإنسان في وجوده الفردي، الوجود المجرد من الأطر الجمعانية، أي الوجود الواقعي/العيني المجرد من الإيديولوجيات الشمولية: الدينية والقومية. وليس غير الليبرالية بمبادئها المنحازة للفرد – بصرف النظر عن هوياته المسبقة – تكفل مثل هذا التحرر من الوهمي لصالح الواقعي؛ لتنقل الفرد من حالة الصراع مع الآخر/الآخرين (الصراع المدمر للذات وللآخر)؛ ليصارع نفسه وعوالمه المشروط بها، من خلال الصراع مع مستقبله/وجوده، وصراعه مع آفاق العلم/الفكر، وصراعه مع الطبيعة؛ فتكون انتصاراته في هذا المضمار إضافة إيجابية له بالأصالة، وإضافة إيجابية للنوع الإنساني، على اعتبار أنه لا يشتغل على نفسه في فراغ، وإنما في فضاء إنساني لا يعدو أن يكون إضافة فيه؛ أيا كان ما يتمتع به – أو ما يعتقد أنه يتمتع به - من استقلال.

مشاركة :