يمرّ شهر نوفمبر من كل عام على معظم العرب والفلسطينيين دون أن تتيح لهم كثرة مشاكلهم ووفرة مشاغلهم استذكار التاريخ المؤلم لوعد «بلفور» المتضمن «67» كلمة أعلنت من خلالها حكومة بريطانيا العظمى عام 1917 أنها تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، وستبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، وذلك مقابل وقوف اليهود الى جانب بريطانيا وحلفائها في الحرب العالمية الأولى! وعلى أثر هذا الوعد الذي «أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق» تتالت موجات الهجرة اليهودية الى أرض فلسطين العربية، فكانت «النكبة» لشعب تواطأ المنتصرون في الحرب الكونية ضده خدمة للحركة الصهيونية المسلحة بالمال، المتحكمة بالإعلام، القائمة على التخطيط بعيد المدى، والمعتمدة على التكاتف المرتكز الى قناعات دينية مزورة وحقوق تاريخية مزعومة. ومرة أخرى، وللأسف، تكررت «نكبة» العرب وفلسطين مع الرقم «67» حين دخلت جمهورية مصر العربية- بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر- ومعها بعض الدول العربية في يوليو 1967 في حرب مع الكيان الصهيوني الغاصب انتهت باندحار الجيوش المقاتلة وخسارة أجزاء مهمة من الأراضي العربية كهضبة الجولان والضفة الغربية، الأمر الذي تم الترويج له على أنه «نكسة» تحاشياً للفظ الهزيمة! الواقع أن العرب، ما زالوا منذ عام 1917 يدفعون ثمن نكبة الـ«67» حرفاً، ومنذ عام 1967 لم يفلحوا بتخطي الآثار الموجعة والممتدة لنكسة الـ«67»، مما دفعهم في مؤتمر مدريد عام 1991 للقبول بمبدأ «الأرض مقابل السلام» الذي ينصّ على العودة لما قبل حدود الهزيمة لقاء اعتراف العرب بإسرائيل، وتوقيع اتفاقيات السلام معها تمهيداً للتطبيع «الكامل والشامل»، وما تلا ذلك من اتفاقيات في «وادي عربة» بين الأردن والكيان الصهيوني الذي وقع فيما بعد مع بعض الدول الخليجية «الاتفاقيات الإبراهيمية» برعاية أميركية. قناعتي راسخة بأن الأحداث الكبرى التي تهزّ الدول والعالم لعشرات السنين قد يرويها التاريخ بصفحات لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليدين، فكل ما تعيشه الشعوب وتظنه حاضراً مريراً سريع التخطّي، هو في حقيقة الأمر الامتداد الطبيعي لأحداث سابقة ومؤثرة في التاريخ القريب أو حتى البعيد، فكل ما يعانيه العرب اليوم من تداعيات وأزمات وتشرذم وحروب ليس سوى نتيجة مباشرة للنكبة والنكسة. لقد استنزفت النكبة– وربما استنفدت- كل طاقاتنا البشرية، المادية والمعنوية، في حين أن النكسة أدخلت المزاج العربي في شعور متزايد من الانهزامية والإحباط اللذين كرسهما التدهور المتلاحق والانزلاق المستمر لدولنا ومجتمعاتنا على كل المستويات العسكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والتنموية، والثقافية، وكذلك على مستوى العلاقات السياسية داخلياً، وإقليمياً، ودولياً. لقد دفعنا– وما زلنا ندفع- أثماناً باهظة نتيجة تفاعلنا الحماسي- غير المدروس وغير المنضبط- مع متطلبات الالتزام الواجب مع القضية الأم، وذلك على حساب القضايا الوطنية والاهتمامات المحلية، مما أربك الخطط وعصف بسلم الأولويات، وذلك بمبرر من الالتزام الديني والواجب الأخوي، وتحت وطأة الشعور بالذنب مرة أو تفادي تهمة الخيانة للمقدسات ولأرض الرباط مراراً اخرى... وكانت النتيجة خسارة أنفسنا وفلسطين معاً! فها هي دول «الطوق العربي»، من مصر الى سورية مروراً بالأردن ولبنان، تفتقد منذ عام 1948 كل مقومات الاستقرار الحقيقي والتنمية الفعلية، حيث تغلّبت الأولويات العسكرية والأمنية على «رفاهية» الازدهار، وحيث صدحت شعارات «القومية العربية»، «الزحف نحو القدس»، و«تحرير المسجد الأقصى»، فصمّت الآذان عن صرخات الأمعاء الفارغة ولفتت الأنظار عن كل الحاجات الملحة للتطوير والتنمية. وها هي الشعوب العربية والإسلامية الأخرى تدفع عنها بسخاء، غير محسوب، تهمة عدم الاهتمام بالقضية المركزية، فتغدق الأموال الطائلة على راسمي درب التحرير والملتزمين بالكفاح المسلّح... فكانت النتيجة انصراف البعض من حاملي الراية أو رافعي البندقية الى عدّ النقود والبحث عن الآليات المناسبة لاستثمارها! لا يمكن لواقعنا المرير أن يخفي أهمية الدعم والمساندة بكل الأشكال والمراحل لمن اتخذ القضية درباً والتحرير هدفاً، مهما كانت جنسيته أو كان انتماؤه، بشرط أن يثبت للجميع صدق خياره وثبات مساره، وأن يعرف- بلغة العسكر- أهمية الموازنة بين خطوط الإمداد وخطوط المواجهة. فالحكمة تقتضي بأن يكون الدعم مدروساً، وأن تكون المصالح المحلية والقومية على القدر نفسه من الرعاية والاهتمام، فلن ينفع تصفيق الضعيف ولن تفيد صرخاته الحماسية في أي معركة غير مدروكة العوائق أو محسوبة العواقب، ولن يفيد الدعم لأي جحافل سرعان ما تنقسم على نفسها، ولن يبقى مداد العطاء مستمراً ولا أبواب السخاء مشرّعة لأي فاشل أو جاحد أو متقلب أو حاقد. نحتاج بالفعل وقفة صادقة مع الذات، تسطع من خلالها الحقيقة ويتحمل في ميزانها كل طرف مسؤولياته ؛ فمهما اعتبرنا أو شعرنا أن فلسطين أرضنا، وأن تحريرها فرض عين على كلّ منّا، ومهما توجهنا الى قبلة السماء بالدعاء المقرون بالبكاء، لن نسترجع «الأقصى» الا اذا أقصينا من تفكيرنا كل الموروثات السلبية التي فتكت بروحنا التضامنية، ولن تتحرر فلسطين إلا إذا تحرر وجداننا الجماعي من ترسبات الفطرة التي تنتصر فيها مشاعرنا على حكمة عقولنا، وتتغلب فيها مصالحنا الفردية على الهموم الجماعية، وتقودنا حماستها الى حيث لا يحمد عقباه. لقد أصبحنا، ونحن لسنا بقلّة، كغثاء السيل توشك الأمم أن تتداعى علينا كما يتداعى الأكلة إلى قصعتها، فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتاهت مجتمعاتنا عن درب الحق والفلاح! * كاتب ومستشار قانوني.
مشاركة :