في بولندا طالبت الحكومة التي يقودها حزب "القانون والعدالة" 1.3 ترليون يورو من ألمانيا، تعويضا لأضرار الحرب العالمية الثانية. - هذا المطلب يستهوي المشاعر الوطنية للبولنديين، حيث أن الأحزاب التي تستهوي المشاعر الوطنية للناخبين آخذة بالارتفاع في أوروبا. طلبت السلطات البولندية بـ 1.3 ترليون يورو من ألمانيا، مؤخرا، تعويضا عن الأضرار التي لحقتها خلال الحرب العالمية الثانية. ورغم أن الطلب ليس جديدا، لكن هذه هي المرة الأولى التي تُقدم فيها بولندا رسميا طلبا بهذا الحجم إلى ألمانيا. العديد من النقاد اعتبر هذه الخطوة جزءًا من الاستراتيجية الشعبوية لحزب "القانون والعدالة" الحاكم في بولندا، باعتبار أن الانتخابات ستُجرى العام المقبل، وغالبا ما يتم تصوير مثل هذه المناورات على أنها لعبة سياسية. يحاول أولاف شولتز في ألمانيا وإيمانويل ماكرون في فرنسا وقادة آخرون في ديمقراطيات أخرى استراتيجيات سياسية مختلفة لإقناع الناخبين بالتصويت لهم، فإحياء أشباح الماضي وتأجيج "المشاعر الوطنية" كما يفعل حزب "القانون والعدالة"، يمكن أن يرقى إلى اللعب بالنار. ** الأحزاب الشعبوية في أوروبا بصرف النظر عن التعقيد التاريخي والقانوني للقضية، فإن مطالبة بولندا بتعويضات من ألمانيا تستهوي المشاعر الوطنية للبولنديين، حيث أن الأحزاب التي تستهوي المشاعر الوطنية للناخبين آخذة في الارتفاع في أوروبا. وأحدث مثالين على ذلك هو نجاح حزبا "ديمقراطيو السويد" في السويد، وحزب "أخوة إيطاليا" بقيادة ميلوني في إيطاليا، في الانتخابات بالبلدين. جميعنا يعرف جيدا كيف قاد تأجيج المشاعر الشعبية بشكل مباشر إلى حروب عدة خلال التاريخ. بالنسبة للاتحاد الأوروبي، يمكن لحكومة حزب "القانون والعدالة" في بولندا أن تكون نقطة انطلاق جيدة لمواجهة الشعبوية داخل الاتحاد، فقد كان الحزب في السلطة منذ وقت طويل نسبيا وهو أقل تشكيكا بأوروبا مقارنة بالأحزاب الشعبوية الأخرى. وعلى الرغم من الانتقادات الكامنة الموجهة إلى أوروبا، لا يزال حزب "القانون والعدالة" يصر على الحفاظ على مكانة بولندا في الاتحاد الأوروبي، ولكن من غير الواضح إلى متى سيستمر هذا الموقف. وينبغي الإشارة إلى أن الحزب قد بذل جهودًا جادة لتشكيل مركز ثقل منفصل في الاتحاد إلى جانب مجموعة دول "فيسيغراد" (بولندا، هنغاريا، تشيكيا، سلوفاكيا). يشير الخطاب المضاد للنخب الليبرالية الأوروبية إلى أن الخطاب الشعبوي اليميني يروق للطبقات الدنيا في المجتمع، والتي توصف بأنها غير عقلانية ويمكن خداعها بسهولة. لكن، المشكلة تكمل هنا. اليوم يبدو أن الناخبين الأوروبيين ينجذبون إلى لغة تعطي الأولوية للهوية الوطنية على قضايا أخرى مثل الاحتباس الحراري وسياسة النوع الاجتماعي وحقوق الإنسان. ومع ذلك، فإن الميل إلى تصوير هؤلاء الناخبين على أنهم متخلفين وغير عقلانيين يبدو أنه ضد العمليات الديمقراطية الراسخة. الأشخاص الذين وعدتهم الدولة القومية بالذاتية السياسية كمواطنين تم دفعهم بشكل متزايد إلى هامش المجتمع على مدى العقود الأربعة الماضية مع الانتقال إلى الليبرالية الجديدة، فقد انخفض نصيبهم من الدخل يوما بعد يوم، ومع نهاية الحرب الباردة وتراجع السياسة اليسارية، فقدت السياسة التي زعمت أنها تمثل الطبقات العاملة جاذبيتها. في غضون ذلك، وضع الخطاب السياسي الليبرالي المهيمن ثقله على قضايا مثل العنصرية وحقوق الأقليات والاحتباس الحراري، وواكبت السياسة اليسارية السائدة هذه الهيمنة. ** الحالة البولندية كانت بولندا واحدة من البلدان التي عاشت كل هذه العمليات بشكل مكثف، ابتداءً من عام 1989، شهدت فترة انتقال تكنوقراطية إلى اقتصاد ليبرالي، وأهم ما ميّز هذه الفترة أنها كانت عملية قائمة على تقليد الليبرالية الغربية. نتيجة لذلك، تطور اقتصاد بولندا، وأصبح أحد أكثر دول الكتلة الشرقية تقدمًا، متكاملاً مع النظام الاقتصادي الغربي تمامًا. انضمت وارسو إلى حلف شمال الأطلسي "ناتو" عام 1999 وإلى الاتحاد الأوروبي في 2004، ومع ذلك، لم تستطع شرائح المجتمع المختلفة الاستفادة بشكل متساوٍ من الازدهار المتزايد. اليوم، حزب "القانون والعدالة"، الذي يواصل انتقاداته الموجهة إلى الاتحاد الأوروبي في خطاباته وينفذ السياسات الاجتماعية للطبقات الدنيا، يحكم بمفرده منذ عام 2015. يعد الحزب بالدفاع عن مصالح الشعب البولندي، تمامًا مثلما وعد نظرائه الشعبويون من الجناح اليميني واليمين المتطرف ناخبيهم. كانت علاقة الاتحاد الأوروبي إشكالية مع حكومة حزب "القانون والعدالة"، التي من المحتمل أن تفوز بولايتها الثالثة في السلطة. وبينما لعبت بولندا دورًا رائدًا نيابة عن الاتحاد الأوروبي في الأشهر الأولى من حرب أوكرانيا، يعتقد العديد من الخبراء أن هذا الموقف لن يستمر إلا لفترة قصيرة. وحقيقة أن المفوضية الأوروبية وافقت على الغرامات المفروضة على بولندا، لأن حزب "القانون والعدالة"، حسبما ورد، "أضر بسيادة القانون في بولندا"، يشير إلى طبيعة العلاقة بين الجانبين. ومن المظاهر الأخرى استمرار انتقاد الجانب البولندي للاتحاد وإعادة فتح مطالبته بتعويضات الحرب العالمية الثانية من ألمانيا. ** الاقتصاد السياسي يمكن للاتحاد الأوروبي وبولندا اتخاذ بعض الإجراءات التكتيكية لحل هذه المشاكل، ومع ذلك، من الضروري معالجة السبب الجذري، الذي يكمن في الاقتصاد السياسي النيوليبرالي، المسؤول بشكل أساسي ليس فقط عن صعود حزب "القانون والعدالة" إلى السلطة ولكن أيضًا عن صعود جهات فاعلة يمينية شعبوية أخرى. في حالة بولندا، ستكون نقطة البداية هي رؤية أمراض فترة ما بعد عام 1989، وأصبحت بولندا سوقًا جديدًا للاقتصاد الليبرالي ومصدرًا للقوى العاملة، حيث هاجر منها أكثر من مليون شخص إلى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى بعد عام 2004. في هذا الصدد، ليس من المستغرب أن الأشخاص، الذين لم يحصلوا على نصيب متساوٍ من الدخل، فقدوا إحساسهم بالسيطرة في هذا التحول السريع إلى اقتصاد ليبرالي. كان للبيروقراطية الأوروبية القوية دور أكبر في شؤون الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، مما قلل بشكل مستمر من تأثير الناخبين. وهذا الجانب هو جوهر رد حزب "القانون والعدالة" على مزاعم انتهاكه لسيادة القانون، إذ يدعي الحزب أن القانون قد استولت عليه النخب الليبرالية ويجب إعادته إلى الشعب، وينتقد الفجوة المتزايدة بين الطبقات الاجتماعية لأنها لا تحصل على نصيب متساوٍ من التنمية الاقتصادية. وفي ظل هذا الاقتصاد السياسي، تنادي الأحزاب الشعبوية اليمينية الناس، وتعدهم بمزيد من الفاعلية السياسية، وقد يكون من المخيف أن يشمل هذا الالتزام في كثير من الأحيان العنصرية وإساءة معاملة الأقليات، وخاصة المهاجرين. ** تأثير القوى العالمية علاوة على ذلك، تغذي القوى العالمية هذه المشكلة أيضا، حيث تتمتع كل من روسيا والولايات المتحدة بعلاقات جيدة جدًا مع الحركات الشعبوية اليمينية. تبرز بولندا كواحدة من أهم حلفاء حلف "الناتو" وتظل أفضل شريك لواشنطن في أوروبا، على الرغم من أنها لا تزال تنتقد الاتحاد الأوروبي. في الوقت نفسه، تقدم موسكو الدعم المالي للعديد من الأحزاب الشعبوية اليمينية وتستخدمها كأحصنة طروادة داخل الاتحاد. على سبيل المثال، حصلت الفرنسية اليمينية مارين لوبان على قروض كبيرة من البنوك الروسية لحملتها الانتخابية، وهذا بدوره أدى بها إلى تعديل وجهات نظرها بشأن التدخلات العسكرية الروسية. توضح مواقف المجر وبولندا الموالية لروسيا والولايات المتحدة هذا الوضع، كما يُظهر موقف زعيمة حزب "أخوة إيطاليا" اليميني المتطرف جورجيا ميلوني المؤيد "للناتو" والولايات المتحدة والعلاقات الجيدة بين حزب "البديل" الألماني وروسيا أن ديناميكيات مماثلة تتكشف في بلدان أخرى. باختصار، صعود الأحزاب الشعبوية اليمينية يهدد أيضًا الموقف الدولي للاتحاد الأوروبي، لكي يكون الاتحاد قوة يحسب لها حساب على الساحة الدولية، يجب أن يطرد شبح الفاشية ويواجه المطالب الذاتية السياسية للشعب الأوروبي. * الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لوكالة الأناضول. * عمر جار الله سيفيم، يعمل في مركز البحوث بقناة "تي آر تي وورلد". الأخبار المنشورة على الصفحة الرسمية لوكالة الأناضول، هي اختصار لجزء من الأخبار التي تُعرض للمشتركين عبر نظام تدفق الأخبار (HAS). من أجل الاشتراك لدى الوكالة يُرجى الاتصال بالرابط التالي.
مشاركة :