إن حديثنا عن حياة أمُتنا وروحها ونورها وتقدمها وحضارتها وازدهارها، أراني في بحر اللغة العربية المتلاطم الأمواج ما بين أصول لغة ونحو وأدب وشعر وتزكية خلق، ورائدنا وقائدنا في هذا المجال أفصح الخلق على الإطلاق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام؛ لإنه أوتي جوامع الكلم، فهل حافظنا نحن المسلمين بنين وبنات على جوامع كلم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟، ألم يخاطبنا ربنا بقوله تعالى: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ )؟، والمرء كما قال صلى الله عليه وسلم بأصغريه قلبه ولسانه، والأمة تحيا بحياة لغتها وتموت بموتها، فإذا رأيت أمة فانظر إلى لغتها. إن كانت في الذروة يُحبها أهلها بقلوبهم لا بترديد ألسنتهم وسماع آذانهم فاعلم أن الأمة حية، وكما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم: أرى لرِجالِ الغَربِ عِزّاً ومَنعَة وكم عَزَّ أقوامٌ بعِزِّ لُغات أتَوْا أهلَهُم بالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً فيا ليتَكُمْ تأتونَ بالكلِمَاتِ وغرناطة لاتزال شاهدة، وقرطبة، وإشبيلية، وبخارى، وسمرقند، وبغداد، والقاهرة، كيف كانت منارات الحضارة والعلم لأمة سبقت العالم. فاللغة العربية هي سياج هويتنا، ومقوم أساس لحضارتنا، وأداة تنميتنا الفكرية والثقافية والعلمية والتربوية والاجتماعية، فالعناية باللغة واجب علينا جميعاً، وهو واجب ديني وطني وقومي. واللغة الأم كلبن الأم لا يمكن أن تعوض عنها أية لغة أخرى مهما بلغت من درجات الرُقي والانتشار. فهي تحفظ تراثنا، وترسم شخصيتنا الحضارية، وترسخ جذورنا، وتشدنا إلى بيئتنا والوطن. وعليه فإن إهمال أي مجتمع للغته يعني التنازل عن ثقافته، وتوسيع الفجوة بين أبنائه وثقافتهم وتراثهم وقيمهم وثوابتهم وسيادة أوطانهم واستقلالها. فاللغة العربية تُمثل لنا السيادة والاستقلال والهوية: لو لمْ تَكُنْ أمُّ اللغاتِ هي المُنَى لكسرتُ أقلامي وعِفْتُ مِدَادي لُغَةٌ إذا وَقَعَتْ على أسماعِنَا كانتْ لنا بَرَدًا على الأكبادِ ستظلُّ رابطةً تؤلِّفُ بيننا فهي الرجاءُ لناطِقٍ بالضَّادِ ونحن اليوم إذ نحتفل باليوم العالمي للغة العربية، لننظر إلى التحديات والمآزق التي تُحيط بلغتنا، ولنتأمل كيف نذود عنها وكيف نحافظ على سمو مكانتها في مواجهة الهجمات والغارات الرامية إلى القضاء على كرامتها وأصالتها، ولنفكر كيف ننهض بها وكيف نؤهلها للتمشي مع مسيرة الأيام دون تعرضها لأي نقصان أو خسران في خصائصها وميزاتها الحسان، لأن وضع اللغة العربية في عصرنا الراهن لا يسُرنا ولا يرضينا بل يؤسفنا ويُحزننا؛ بحيث إن العربية العامية والدارجة قد تفشت في جميع البلدان العربية تفشياً فاحشاً، وكثر استعمالها حتى طغت على الفصحى، وتدهور للأسف وضع الفصحى واستفحل أمرها؛ حتى بلغت التراقي أو كادت، وانحصر نطاقها في لفيف من العلماء والمثقفين، وأصبح الجهل بالعربية السليمة والإلمام بلغات الشعوب الأخرى مفخرة لذوي العقول السقيمة، مع أن ذلك هو المزلقة الحقيقية، وهو حقاً مؤامرة شنيعة حاكها ضدنا اعداؤنا، ولا أقصد بهذا أن يُستنكر تعلم اللغات الأخرى والتضلع منها، بل إنه أمر جدير بالعناية، ولكن يجب أن لا نستهين من أجله بلغتنا الأم، وأن لا نتلاعب بها، رغم إيماننا واعتقادنا أنها أفضل اللغات وأشرفها، ومن هنا كان لزاماً علينا أن نتنبه إلى هذا الأمر الخطير قبل فوات الأوان، وأن نستيقظ من سُباتنا قبل أن يبكي علينا زماننا، وقد سبق أن نبهنا إلى ذلك حافظ إبراهيم حين قال: أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِرُواةِ أَرى كُلَّ يَومٍ بِالجَرائِدِ مَزلَقاً مِنَ القَبرِ يُدنيني بِغَيرِ أَناةِ
مشاركة :