يبدو واضحاً أن الحكومات حول العالم فعلت حراكها ضد ما يعرف بـ«الملاذات الضريبية الآمنة». وهذا ما يعزز حقيقة، أنه عندما تواجه أزمة مالية، غالباً ما تلجأ إلى دفاترك القديمة وتفتحها، بحثاً عن مبلغ هنا وآخر هناك، يسد ثغرات في العجز المالي. والعالم يمر اليوم بواحدة من أسوأ الأزمات، عبر تضخم «متوحش»، وفوضى سياسية دولية، وصراعات جيوسياسية لا تنتهي، بل تشهد تفاعلات نحو الأسوأ. في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في العام 2008، شنت الحكومات حول العالم حملة قوية على الملاذات الضريبية، وتمكنت بالفعل من وضع قوانين مقيدة في هذا المجال، بما في ذلك قانون «فاتكا» الأمريكي، الذي يلاحق أي مواطن أمريكي في أي مكان في العالم ضريباً، بصرف النظر عن مستوى المبالغ المحصلة منه، كبيرة كانت أم صغيرة. بالطبع لا يوجد رقم محدد لحجم الأصول المالية الموجودة في الملاذات الضريبية عالمياً، لأنها خاضعة لشبكة معقدة من العمليات، ولأعلى مستويات السرية، وإلا فإنها لا تستحق توصيف «الآمنة»، لكن التقديرات تتراوح بين 21 و32 تريليون دولار، وكما هو واضح هناك تفاوت كبير في هذه التقديرات. لكن الشيء المؤكد أن حجمها يرتفع بالرغم من الحملات الدائمة و«الموسمية» القوية عليها، على اعتبار أنه لا توجد رغبة حقيقية في النظام العالمي للقضاء على هذه الملاذات، بحسب البروفيسور وليم استون، أستاذ النظم المصرفية في جامعة أوكسفورد البريطانية. والحق، أنه من الصعب تتبع هذه الأصول بمجرد أن خرجت من النظام المالي لدى هذه الدولة أو تلك. وطالما أن هناك حملات ضدها، هناك أدوات متجددة في مواجهة هذه الحملات. باختصار، لا تزال الملاذات الضريبية الآمنة، متقدمة على الأنظمة المالية الحكومية. لدى المقيمين في بريطانيا (مثلاً) 850 مليار استرليني بحسابات خارجية، منها 570 مليار في ملاذات آمنة، بحسب تقديرات 2019. وإذا ما بقينا في نطاق التقديرات، فالضرائب الضائعة عالمياً من جراء الأصول المخبأة تصل قيمتها إلى 427 مليار دولار سنوياً، وهذا ما يثير السؤال الكبير، لماذا تخفق الحكومات عموماً في ملاحقة هذه الأصول؟ يعترف المشرعون ولا سيما في البلدان المتقدمة التي تعد «مصدراً» مهماً لهذه الأصول، بأن الإجراءات التي يتخذونها لا تزال دون المستوى، وأن قوانين مشابهة لـ «فاتكا» الأمريكي يمكنها أن تساعد في حصر ما أمكن من هذه الأصول، وتحصيل الضرائب عليها. ويذهب هؤلاء أبعد من ذلك، باعتقادهم أن اللجوء إلى المتهربين التائبين أو الذي وقعوا بالفعل والحصول على مساعدتهم، يمكن أن يُحدث فرقاً، مثلما هو الحال باستخدام قراصنة الإنترنت السابقين ضد القراصنة الناشطين. والمسألة المرعبة هنا لا تنحصر في التهرب الضريبي فقط، بل تشمل غسيل الأموال الآتية من الجريمة المنظمة والمخدرات، وتلك التي تعود لمنظمات إرهابية. أي أن العمل لا بد أن يكون أشد في المرحلة المقبلة، لاستعادة ما أمكن من أموال الضرائب المفقودة، ولخنق العصابات بصرف النظر عن ماهيتها.
مشاركة :