شغلت قضية معنى الحياة والموت وجدلية المصير الإنساني محوراً هاماً في الفلسفة الوجودية، وانطلاقاً من الموقف الفردي الأعمق الذي يتجه إلى الإنسان وعاطفته التي تدرك العالم إدراكاً أولياً، يحتل الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو مكانة متقدمة ورائدة بين الوجوديين رغم أنه لا يصنف نفسه كفيلسوف وجودي محتذياً حذو الكثير من فلاسفة الوجود الذين رفضوا التسميات والألقاب التي تحد من حريتهم الفكرية بين الأدب والفلسفة. ولعل ما يميز كامو هو إعادة تسميته للمفاهيم الوجودية وإعطائها بعداً جديداً يتناسب مع روح العصر وأزمة الإنسان الحديث. إن بعض المقولات التي تشكل أركان الفلسفة الوجودية مثل الكينونة، اليأس، القلق، العبث؛ يعاد خلقها من جديد مع كامو لتصبح منهجاً لحياة الإنسان، ومصالحة مع أقداره العنيفة والمرعبة. يكشف كامو عن التناقض بين الإنسان والعالم، ويتأمل في المشاعر اللامعقولة التي تصدر عن هذا الإنسان في محاولته للفهم أو لتفسير ما يجري حوله. ما إن يبدأ الإنسان بالتفكر حتى تبرز خطورة الذهن الذي يحاول التمييز بين الحقيقي والزائف، فحالما يتأمل هذا الفكر نفسه فإنه يكشف التناقض في محاولته لفهم العالم، ومعنى أن يفهم الإنسان العالم هو أن يجعله بشرياً يخضع لقواعد العقل والمنطق. هناك دائماً شهوة بشرية للمطلق والوضوح تجسد كل الدراما الإنسانية، وكما يذكر كامو إذا استطاع المرء أن يقول مرة واحدة فقط: هذا واضح، فسيتم إنقاذ كل شيء. تنشأ اللاجدوى من الحاجة البشرية الملحة إلى الوضوح والمنطق مقابل صمت العالم اللامعقول، وينبثق الشعور باللاجدوى من المقارنة بين حقيقة مجردة وواقع معين، بين الفعل والعالم الذي يفوق طبيعة ذلك الفعل. واللاجدوى ليست في الإنسان ولا في العالم، وإنما في التحامهما معاً، وهذه اللاجدوى هي التي تربط الإنسان مع العالم في هذا الصراع أو الالتحام، ولا يمكن أن تكون هناك لا جدوى خارج العقل البشري. إن أولى حركات الوعي عند الإنسان في رغبته الدائمة إلى الوضوح والبحث عن معنى تتمخض عن ذلك التناقض الرهيب بينه وبين العالم. ففي اللحظات التي يدرك فيها الإنسان ذلك الضباب من العدم، وذلك الليل الذي يتبدى فيه اليأس مضيئاً كالنجوم؛ تصفعه اللاجدوى بعريها المقلق، وهنا تأتي اللحظة التي يجب على الإنسان أن يحمل الزمن فيها، وأن يكون مسؤولاً عن مصيره ومتناغماً معه في الوقت ذاته. رغم محاولة الفلاسفة أن يعطوا نظاماً للحياة والأفكار، وأن يغوصوا في أعماق الإنسان وانفعالاته، إلا أن هذه الحياة تبقى بلا معنى ولا هدف في الحياة سوى الحياة نفسها. هنا يستنطق كامو العديد من الفلاسفة الوجوديين ويبرهن على أن معظم أفكارهم وإن كانت تحت عناوين لغوية براقة، إلا أنها تخفي تحتها الوعي المرعب بلا جدوى الحياة، وما هذه الأفكار إلا محاولات لإشباع الظمأ البشري إلى الفهم والوضوح في عالم ممزق ومشتت. ويصف كامو أن الموقف الوجودي هو انتحار فلسفي إذ تصل الأفكار إلى حدودها القصوى والنهائية، ويلجأ الفكر دائماً إلى النفي والتفوق على نفسه، وهذا النفي هو الله بالنسبة إلى الوجوديين. في اللحظة التي يدرك فيها الإنسان اللاجدوى تصبح انفعالاً، وأشد الانفعالات إزعاجاً. ومن نتائج اللاجدوى هي ثورة الفرد وحريته، وبواسطة فعالية الإدراك يكون العالم المجدي برمته قاعدة للحياة، لا دعوة إلى الموت أو الانتحار، فالعالم اللامجدي يأخذ نبله أكثر من العوالم الأخرى. لكن كيف يمكن للاجدوى أن تكون طريقة في العيش والإنسان محاط بهذا الضجر الذي يبعث على الغثيان، وهذا التكرار الرتيب؟ كيف يمكن أن تتحول المواجهة العنيفة بين الإنسان والموت والزمن إلى علاقة وئام وتصالح؟، ومن جهة أخرى ألا يكون الانتحار خياراً وجودياً في ظل انعدام كل قيمة حقيقية للحياة؟ يرى ألبير كامو أن الحياة تعاش بصورة أفضل إذا لم يكن لها معنى، والعيش هو إبقاء اللاجدوى على قيد الحياة عن طريق التأمل فيها. إن ثورة اللاجدوى هي من تهب الحياة قيمتها وروعتها، وتكون هذه الثورة عن طريق يقظة الوعي عند الإنسان بين فترة وأخرى، والشعور القوي بالحاضر واللحظة الراهنة بحيث يفقد الإنسان أي صلة بالمستقبل ويكون خالياً من الأمل. فالإنسان في سعيه نحو مشروع وجوده أو طموحه المستقبلي تتسرب منه سكينة النفس ويقظة الحاضر فتصبح الوسيلة هي الغاية. لكن لا يكفي للإنسان أن يقتنع بأن الحياة ليس لها معنى وفي نفس الوقت يكبل نفسه داخل إطار وجودي يتجه إلى المستقبل وإلى تحقيق الغايات، فبعض البشر قد سجنوا أنفاسهم داخل حرياتهم مثلما أصبحوا عبيداً لحقائقهم وبالتالي سقطوا في فخ الآمال الساذجة وفي الصراع المدمر مع أوهامهم وآمالهم البعيدة. تتفتح اللاجدوى أمام الفرد من خلال اشتباكه العنيف مع الموت والمضي في هذه الحياة بلا اهتمام أو اكتراث. إن الإيمان العميق باللاجدوى هو اليقظة المستمرة التي ترافق الإنسان لتحرر روحه من الأمل ومن الأشياء العظيمة التي يأمل أن يكونها في الغد. حياتنا اليومية التي يسودها الروتين والتكرار، وما نتعرض له من إكراهات خارجية ومن أعباء ثقيلة، حتى الإنجازات الكبيرة في الأدب والفن وغيرها من الأمور التي نعكف عليها شهوراً وسنيناً. كل هذا استمرار في اللاجدوى واللاجدوى قد لا تنبع من الألم ومن العقبات التي تواجه طريقنا، ولا من القلق والرعب المحدقين بنا، لكنها قد تنبثق من شعورنا بالسعادة ومن حالات الطمأنينة العميقة. الاعتقاد في اللاجدوى ينبني على تفاهة الحياة الفردية وضحالتها، وعلى الضياع والتلاشي في إرادة الموت التي تنتصر دائماً على الإنسان. الاستمرار في اللاجدوى هو أن لا ترى نفسك في الغد، وأن لا يكون عملك عظيماً، وأن تندثر ولا يبقى أي ذكر لك. فكل شيء بعدك عدم، وأنت جزء من هذا العدم والنسيان. هذا التوحد مع الفناء، هو من سيتيح لك الشعور الحقيقي بالحرية وبقوة الحياة وأسرارها. من جهة أخرى لا نستطيع أن نعتبر اللاجدوى فكرة يتبناها المرء بشكل طارئ كطريقة في العيش بحثاً عن السعادة، ولا أن نطبعها بطابع الحقائق الفلسفية. اللاجدوى قد تصيب أي إنسان في لحظة تفجر وعيه وشعوره الخاص بفردانيته وحريته. واستناداً إلى كامو يمكننا أن نستخلص شيئاً من ماهية اللاجدوى المحتجبة، فاللاجدوى تعلم المرء أن التجارب غير مهمة من ناحية، لكنها من ناحية أخرى تحفزه نحو أكبر عدد من التجارب. فخلف حالات الصبر، الصراع ومحبة القدر الذي يسحقنا ويدمرنا لا نستطيع تصور أنفسنا إلا سعداء عن طريق صدفة كونية يقفز فيها الأمل من عالم اللاجدوى بعد أن نكون قد تخلّينا عن الأشياء وتخلّت عنا وأصبحنا أحراراً في مصائرنا، وهذا هو سر الثورة الوجودية التي ترنو دائماً إلى الاستدعاء المفاجئ للأمل غير المرتقب وغير المتوقع. تعتبر أسطورة سيزيف التي استشهد بها كامو في كتابه خير دليل على عبثية الحياة، وانتفاء معناها. كان عقاب الآلهة لسيزيف بأن يدحرج صخرة صعوداً إلى الأعالي، وما أن تصل إلى القمة حتى تسقط الصخرة إلى الأسفل بسبب ثقلها، وكان على سيزيف أن يعاود الكرة مراراً وبلا نهاية وأن يقضي حياته في تلك العقوبة الأبدية. ترمز أسطورة سيزيف إلى الأثقال التي نحملها مجبرين في حياتنا ونكررها بلا كلل أو ملل دون غاية أو هدف نصل إليه. لكن ألبير كامو لا يحكم على سيزيف بالشقاء والعذاب، بل ويجب على المرء أن يتصور أن سيزيف سعيداً، فالشعور باللاجدوى ينبثق من اللحظة التي يسأل فيها الإنسان.. لماذا؟ وهذا السؤال بلماذا؟ يسميه كامو بلحظة توقف، فهو يتصور أن سيزيف سيتوقف لحظة ويسأل عن جدوى ما سيقوم به في هذه الدوامة من التكرار والملل والمعاناة. إن الوقفة هنا والتأمل في الغاية والمعنى للعمل الذي سيقوم به الإنسان هو تماماً سؤال عن معنى الحياة برمتها وهذا السؤال هو الشعور باللاجدوى الذي ينبثق من لحظات الإدراك والاعتراف. إن السؤال عن لماذا لا يقوم سيزيف بإنهاء حياته كوسيلة للخلاص من ذلك العذاب أو ما نفع العمل الذي أقوم به أنا الآن مع كل هذا البؤس ومع كل هذه الكآبة القاتمة التي تفصلني عن العالم، ثم ألا يكون الانتحار هنا موقفا ثوريا ضد كل هذا العبث أو خياراً يخص كينونتي وحريتي؟ كل هذه الأسئلة التي يصوغها الذهن تريد أن تخضع الحياة لمعايير عقلانية، وأن تجعل الوحدة متماسكة بين الإنسان والعالم، لكن الحياة تمضي خارج كل معقول وخارج كل منطق إنساني، ولا تكترث لعذابات الإنسان وصرخاته. وحده العقل البشري من يضع المعايير والافتراضات. ويطلب من العالم أن يخرج من صمته، وأن يقدم لنا الاعترافات والبراهين. ينشأ العمل الفني وفقا لكامو من تعدد مظاهر العالم واختلافه. إذ أن عاطفتنا تعتريها الغبطة حين ترى تلك المظاهر والمفاتن الدائمة للكون، وهذه المظاهر لا تأتي من عمق العالم ولكن من الإحساس بها وباختلافها، حيث الإحساس وحده يبقى ولا ينفع التفسير. إن التناقض هو أساس العمل الفني الذي يصنع المظاهر ويغطي بالصور كل ما لا سبب له. والأعمال الفنية تستمد مغزاها التعريفي من الموت وغموضه. أما لو كان العالم واضحا فإن الفن لن يكون موجوداً. يستطيع الإنسان أن يحب مصيره حتى وإن كان مأساوياً، فطالما كان حراً يستطيع أن يتصالح مع المعاناة، وأن يحرر ذهنه من الفكر الذي يفترض ثنائية اللذة والألم أو الخير والشر، فالإنسان يتعود على العيش قبل أن يحصل على عادة التفكير. إن القلق والرعب والليالي التي تمزقها الدموع هي ملكي وهي أشياء تخصني وحدي، وبالتالي لا يستطيع أي شخص أن يصدر حكماً عليّ بأني محكوم بالشقاء طالما كنت متأملاً عذابي، وتلك المشاعر العميقة التي تضيء باحتدامها وجرحها عالماً استثنائياً تدرك فيه جوهرها. هكذا يرى الإنسان اللامجدي حياته طالما لا يرغب في شيء ولا يأمل في شيء، بل يقول نعم ولا يكف عن بذل مجهوده الشخصي. تصبح الحياة مثيرة أكثر كلما ازدادت شدة صراعها ونفيها للأمل، فهنالك في تمسك الإنسان بالحياة شيء أقوى من كل شرور العالم. يقول ألبير كامو: يكمن سرور سيزيف الصامت هنا أن مصيره يخصه هو وصخرته هي الشيء الوحيد الذي يملكه. إن سيزيف يعلمنا الأمانة الأسمى التي تنفي الآلهة وترفع الصخور، وهو أيضاً ينتهي أن كل شيء حسن. وهذا الكون الذي يظل الآن بلا سيد، يلوح له غير عقيم وغير تافه، فكل ذرة من تلك الصخرة وكل قطعة معدنية من ذلك الجبل الذي يملؤه الليل تؤلف عالماً بحد ذاتها. والصراع نفسه نحو الأعالي يكفي ليملأ قلب الإنسان ويجب على المرء أن يتصور سيزيف سعيدا.
مشاركة :