في أيامنا هذه، يحتل "تحول الطاقة" من الهيدروكربونات إلى مصادر الطاقة المتجددة والكهرباء الصدارة في المناقشات السياسية. لكن الأشهر الـ18 الأخيرة أثبتت أن هذه المهمة تنطوي على قدر من الصعوبات والتحديات أعظم كثيرا مما كان المرء يتصور بمجرد دراسة الرسوم البيانية التي تظهر في عديد من السيناريوهات. حتى في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث تبنت الحكومات مبادرات ضخمة، مثل: قانون خفض التضخم ومبادرة RePowerEU لتحريك الأمور، لن يجري تحديد عمليات تطوير ونشر وتوسيع نطاق التكنولوجيات الجديدة التي يعتمد عليها التحول في نهاية المطاف إلا بمرور الوقت. يوحي مصطلح "تحول الطاقة" بأننا نخطو ببساطة خطوة أخرى في الرحلة التي بدأت قبل قرون من الزمن مع الثورة الصناعية. لكن في دراسة وفحص تحولات الطاقة السابقة أثناء الإعداد لكتابي "الخريطة الجديدة"، أذهلني مدى اختلاف التحول الحالي. ففي حين دفعت التكنولوجيا والميزة الاقتصادية التحولات السابقة، تعد السياسة العامة الآن العامل الأكثر أهمية. علاوة على ذلك، تتابعت فصول تحولات الطاقة السابقة على مدار قرن من الزمن أو أكثر، ولم تحل بالكامل محل التكنولوجيات القائمة، فقد تغلب النفط على الفحم باعتباره أكبر مصدر للطاقة في ستينيات القرن الـ20، بيد أننا الآن نستخدم من الفحم ثلاثة أمثال ما كنا نستخدمه منه في ذلك الحين، مع ارتفاع الاستهلاك العالمي إلى مستوى غير مسبوق في 2022. على النقيض من ذلك، من المقرر أن يحدث التحول اليوم في غضون فترة تزيد قليلا على ربع قرن من الزمن، ولن يكون هذا التحول تكميليا. وبالنظر إلى حجم التحول المتصور، يخشى بعض المراقبين أن تحليل الاقتصاد الكلي لم يحظ بالقدر الكافي من الاهتمام في عملية تخطيط السياسات. في ورقة بحثية أعدت في 2021 لمصلحة معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، يشير رجل الاقتصاد الفرنسي جان بيساني فيري، إلى أن التحرك بسرعة أكبر مما ينبغي إلى صافي الانبعاثات صـفر قد يؤدي إلى التعجيل بإحداث "صدمة عرض معاكسة - تشبه إلى حد كبير - صدمات سبعينيات القرن الـ20". ويحذر من أن التحول المندفع "من غير المرجح أن يكون حميدا، وأن صناع السياسات يجب أن يستعدوا لاختيارات عصيبة". تشير التطورات منذ بدأت أسواق الطاقة تصبح أكثر إحكاما وتوترا في أواخر الصيف، إلى أربعة تحديات كبرى تستحق الاهتمام والمتابعة. أولا: بسبب الارتباكات التي أحدثتها الحرب التي تشنها روسيا في أوكرانيا، أصبح أمن الطاقة أولوية قصوى مرة أخرى. في القسم الأعظم من الأمر، لا يزال الإبقاء على الأنوار مضاءة والمصانع عاملة يتطلب استخدام الهيدروكربونات، وعلى هذا فإن أمن الطاقة يعني ضمان إمدادات كافية، وبأسعار معقولة، والعزل عن المخاطر الجيوسياسية والمصاعب الاقتصادية. حتى مع استمرار تركيزها على تغير المناخ، حثت إدارة بايدن الشركات المحلية على زيادة إنتاجها من النفط وأطلقت الإمدادات من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي على نطاق أكبر كثيرا من أي إدارة سابقة. وفي ألمانيا، قاد حزب الخضر في الائتلاف الحاكم تطوير قدرة البلد على استيراد الغاز الطبيعي المسال، مع وصول أولى الشحنات من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة هذا الشهر عن طريق بنية أساسية تم تشييدها في أقل من 200 يوم. الواقع أن أمن الطاقة لن يكون موضوعا يمكن تجاهله في الأعوام المقبلة. يتعلق التحدي الثاني بالحجم، إذ يعتمد الاقتصاد العالمي اليوم، الذي تبلغ قيمته 100 تريليون دولار، على الهيدروكربونات في تدبير أكثر من 80 في المائة من احتياجاته من الطاقة، ولن يتسنى بسهولة تحويل أي شيء على هذا القدر من الضخامة والتعقيد مثل نظام الطاقة العالمي. في كتاب جديد مهم بعنوان "كيف يعمل العالم حقا"، يزعم فاتسلاف سميل، الباحث الشهير في مجال الطاقة، "أن الركائز الأساسية الأربع التي تقوم عليها الحضارة الحديثة" هي: الأسمنت، الصلب، البلاستيك، والأمونيا "للأسمدة"، وكل منها يعتمد بشكل كبير على نظام الطاقة القائم... يتبع. خاص بـ «الاقتصادية» بروجيكت سنديكيت، 2023.
مشاركة :